لقد أثارت حادثة مشاركة قيادة البوليساريو في مراسم تشييع جنازة الرئيس الرّاحل أحمد بن بلة إلى جانب الوفد المغربي برئاسة السيد بنكيران الكثير من الشك و الريبة في سلوك السلطات الجزائرية اتجاه المغرب ، و الدّاعي إلى مثل ذلك السلوك ؛ وما ترمي إليه السلطات الجزائرية من خلاله ؟؟ كما أعادت الحديث عن العلاقات المغربية الجزائرية وحدودها وآفاقها الممكنة ، وما مدى حظوظ تطويرها وتمتينها، أو على الأقل استمرارها ولو في أدنى مستوياتها.. وهذا ما يبرر ما ذهب إليه العديد من المراقبين و المهتمين بالشأن المغاربي من أن العلاقات المغربية الجزائرية تحكمها مجموعة من المعيقات والمُحدّدات ، التي لا يزال لها بالغ الأثر في تحديد معالم العلاقة ، ولا يمكن الحديث عن مستقبل مأمول لهذه العلاقة دون التعاطي معها بقدر كبير من العقلانية و الواقعية لتدليلها ..ويمكن اختصارا تحديد هذه المعيقات/المحددات في النقط التالية: 1- المعيق النفسي المتولد عن السنوات الطويلة من الحرب الباردة وأحيانا السّاخنة ،المفعمة بالدسائس و المكائد ، وخاصة من أطراف - من الجهتين- لم يكن في مصلحتها تصفية الأجواء بين البلدين. ورغم ما يبدو أنه ليس هناك مشكل على المستوى الشعبي ،غير أن الواقع ينبأ مع كامل الأسف إلى أن هناك فئات عريضة من المغاربة تولّد لديها شعور بالتقزز و القرف من الجار الذي لا تأتي منه إلا المشاكل والمُنغِّصات،الشيء الذي يبرر الدعوات الشعبية المتزايدة للإبقاء على الحدود مغلقة ،في اتجاه معاكس للتوجه الحكومي، وربما للتوجه المخزني أيضا، الذي لازال لم يمل من دعواته إلى فتح الحدود التي لم تجد آذانا صاغية في الطرف المقابل . 2- المعيق السياسي ، و المتمثل أساسا في الصراع الظاهر و الخفي داخل الساحة السياسية الجزائرية على الخصوص بين طرفين يقف أحدهما على النقيض من الآخر: بين عسكر من فلول الحرس القديم، يتخذون من الرئيس بوتفليقة ومن يدور في فلك المؤسسة العسكرية واجهتهم السياسية ،بل هم الحكام الفعليون للجزائر؛ وبين طرف مدني يسعى إلى وضع الأسس السليمة لدولة مدنية يسود فيها القانون،دولة تؤسس أمنها عبر نسج علاقات جيدة بجيرانها ،مبنية على التعاون و"حسن الجوار" بما تحمله الكلمة من معنى،وتعبر عن التوجه الغالب لدى الشعب. ولا نحتاج هنا للتذكير بما لِلُوبيات العسكر وفلول الانقلابيين من نظام "هواري بومدين " من مواقف جد عدائية اتجاه المغرب سلطة وشعبا،والتي لا تدّخر جهدا ولو على حساب شعبها في التشويش على المغرب في كل المجالات،ناهيك عن منازعته في وحدته الترابية . في مقابل هؤلاء،نجد طرفا مدنيا من أحزاب سياسية عديدة عبرت عن مواقفها الجريئة فيما يخص ملف الصحراء وأبدت استعدادها لحلحلة المشاكل العالقة بين البلدين بشكل عقلاني،يراعي المصالح الحيوية للشعبين الشقيقين، بل أكثر من ذلك ،نجد البعض منها يعلن بكل وضوح وبكل جرأة عن موقفه من الصحراء ، وأحقية المغرب في السيادة عليها ، وفي مقدمتها حزب " الجبهة الإسلامية للإنقاذ" وحزب" جبهة القوى الاشتراكية " وحزب "التجمع من أجل الثقافة و الديمقراطية" و" حزب العمال الاشتراكي"وغيرها من التنظيمات الإسلامية كحزب "جبهة التغيير" بزعامة عبد المجيد مناصرة المنشق عن حركة حمس . ولهذه الأحزاب كلها حظوظ كبيرة في الوصول إلى الحكم في الجزائر إن توفرت لدى السلطات العليا بها الإرادة الحقيقية في إجراء انتخابات حرة و نزيهة ،وهذا ما يقلق العسكر و من يدور في فلكم،الذين يرون في ذلك تهديدا ليس لمصالحهم فحسب، وإنما قد يهدد وجودهم أيضا . 3- مشكل الصحراء الذي يحاول الساسة من المغاربة والجزائريين إيهام الشعبين والإدعاء بإمكانية قيام علاقات جيدة و طبيعية بين المغرب و الجزائر دون الإلتفات إليه،فهو – حسب ادعائهم- بين يدي الأممالمتحدة ، والزمن كفيل بحلحلته ، ليصبح مع التقادم شيئا من الماضي.. وإدعاء حكام الجزائر أن المشكل لا يعنيهم سوى من باب حق الشعوب في تقريرها، وواجب دعم هذا المبدأ. والحال أن هذا "حق يراد به باطل" .. وإلاّ فما قول هؤلاء في حق "شعب الطوارق"و"أمازيغ التل الجزائري" في تقرير مصيرهم وإنشاء كياناتهم المستقلة؟؟ لكن ،لابد أن نقول وبكل صراحة: إن مشكل الصحراء شكل و يشكل عائقا رئيسا في التقارب الحقيقي بين المغرب و الجزائر، وبالتالي،في التقدم نحو إرساء أسس البناء المغاربي،الذي تعطل أو عُطّل لأسباب كثيرة ،كان من أهمها هذا المشكل.. وما لم يجد طريقه إلى الحل،فلن تكون هناك أية إمكانية للتقارب والتعاون الطبيعي بين الدولتين، كيفما كان لون الساسة أو القادة في كلا البلدين .نعم، يجب أن نقول هذا بوضوح وبكل شجاعة،بعيدا عن البرتوكولات الدبلوماسية ، وما تقتضيه من مُداهنة ونفاق سياسي وغيره . ولذلك،فكل ما نراه من تصرفات استفزازية من طرف السلطات الجزائرية، لن يتوقف في المستقبل المنظور، لأنه يدخل في عمق فلسفة الحكم والمعتقد السياسي لحكام الجزائر،الذين يعملون دائما على اختلاق تهديد خارجي، يُتخذ كذريعة لتحويل الرأي العام الداخلي وصرف أنظاره عن الاستحقاقات المشروعة والطبيعية للشعب الجزائري،وشغله بمعارك وهمية مع الجيران،معارك لن يجني منها الشعب الجزائري سوى المزيد من الفقر و المعاناة.. ومن ثمة نخلص إلى نتيجة صارخة، نقولها بكل أسف وحسر، مفادها " أن النظام الجزائري الحالي يقوم على خلق عداوات خارجية وداخلية متجددة على الدوام، يستمدّ منها مبرراته لكل سلوكاته السياسية،ولكل الأزمات الاقتصادية و الاجتماعية التي تمر منها البلاد. وبالتالي، فانتهاء هذه المبررات هو بمثابة إعلان رسمي عن نهاية النظام الحاكم ككل، فبقاء حكام العسكر بالجزائر رهين ببقاء التهديد الخارجي الموهوم". إنها عقلية الحرب الباردة البائدة. وعليه ،فمهما ادّعى حكام الجزائر استعدادهم لتحسين العلاقات بالمغرب ، فحتما سيجدون ما يمكن أن يشوشوا به على هذه العلاقات وتعكير صفوها،لأن حدود العلاقة بين المغرب و الجزائر مرسومة قِبلا ،ولا يمكن لأي كان من رؤساء الجزائر تجاوزها، وإلا سيكون مصيره كمصير المرحوم "محمد بوضياف"أو "الشاذلي بنجديد" . إن هذا الوضع لن يتغير ما لم تشهد الجزائر تغييرا حقيقيا في النخبة السياسية الحاكمة، وما لم ينتزع الشعب سلطته من قبضة العسكر المستفردين بالحكم ،والمتحكمين في كل دواليب الحياة بالجزائر منذ ما يزيد عن أربعة عقود ونيّف.