في الساعة الأخيرة من السنة الثالثة والعشرين من حكمه المطلق، وقف حاكم تونس ليقول لشعب تونس الثائر، وبلهجة تونسية ونبرات صوتية تنبعث منها موجات وترددات الخوف الذي لم يشعر الديكتاتور بمثله طيلة الثلاث وعشرين سنة التي خنق فيها أنفاس تونس، وبكلام كان هو السعاية بعينها. وقف يقول : أيوا أنا فهمتكم. لنمارس هنا تمرينا من نوع خاص، ونستخرج من هذه القولة سؤالا نتوجه به إلى كافة المستبدين المتسلطين الذين لم يرحلوا بعد: وأنتم هل فهمتم بنعلي كحالة وكتجربة ؟ لا أظن أنكم فهمتم. 1 هل فهمتم أنه بإمكان الحكم الفردي أن يقتل النخبة السياسية والأحزاب السياسية، ولكنه لن يستطيع قتل السياسة من قلوب المواطنين، إذا اعتبرنا أن السياسة هي الاهتمام بشؤون المدينة ؟ لم تفهموا ذلك بعد. هل فهمتم أن ممارسة السياسة من خلال حزب الدولة الأوحد، وقهر الأحزاب الأخرى قد يمنحكم كل كراسي البرلمان، لكنه لن يجعل هذا البرلمان ذا شرعية حينما ينزل المواطنون إلى الشارع، أي إلى البرلمان البديل حينما يستولي أمثالكم على البرلمان ؟ لا أظن أنكم فهمتم. 2 هل فهمتم أنه بإمكان التشميع الأمني للمجتمع، وعسكرة الحياة العامة للمواطنين و "بولسة "البلد، أن يجعل المستضعفين يصطفوا لتحية الحاكم المطلق، لكنه لن يحفظ هذا الحاكم من التسول للشعب في الساعة الأخيرة من تسلطه، وانه من قلب الجيش قد يظهر من يرفض أوامر الحاكم المطلق بإطلاق الرصاص على الصدور العارية للمنتفضين من اجل الكرامة والحرية؟ لا أظن أنكم فهمتم. 3 هل فهمتم أن الحداثة ليست قطعة مستقلة بذاتها، نحارب بها خصوما سياسيين، بل هي عبارة عن سلة التزامات ورزمة مقتضيات، مؤداها في السياسة رفع القداسة عن البشر وعن الأفعال، ومؤداها في الاقتصاد حماية حرية المنافسة، وضمان حياد السلطة في هذه المنافسة، ومؤداها في القضايا المصيرية إشراك المواطنين في اتخاذ القرار؟ هل فهمتم أن الحداثة هي نص له فصول وليس نصا نقرأه بمنهج ويل للمصلين ؟ لا أظن أنكم فهمتم. 4 هل فهمتم أنه يمكنكم أن تؤسسوا حزبا من عدد يقل عن عدد أصابع اليد الواحدة، ومن بقايا أحزاب ومن سقط المتاع السياسي منتهي الصلاحية وأنه، يمكنكم بناء ما يشبه مشروعا مجتمعيا رأسماله الأوحد الادعاء أنكم هنا من أجل التصدي للإسلاميين، ولكن لا يمكنكم النجاح في ظل وجود إسلاميين ديمقراطيين لان مشروعكم مشروع أمنوي يبني وجوده على غياب وتغييب الإسلاميين الديمقراطيين، وعلى وصفهم بالإرهاب كي يتيسر لكم تمرير مشاريعكم الاستبدادية؟ لا أظن أنكم فهمتم. فاصل أنا أذكركم بما قاله بنعلي في خطاب الهروب. قال المخلوع ( الذي تم خلعه من الحكم، وكلكم الآن "مخلوع " أي بالعامية المغربية مرعوب وخائف) : لقد تم تضليلي، وإخفاء الحقائق عني. أنا هنا أفترض أنكم أيضا إلى حدود الآن ضحايا تضليل، لهذا سأرفع عنكم الغطاء، لله في سبيل الله وأكشف لكم ما يجب عليكم معرفته كي لا تقولون يوم الهروب "أنا حاكم ما شافشي حاجة "، هذا علما بأنه لا يعذر حاكم بجهله للواقع. إن المخاطر التي، ربما لا تعلمون بها – وأنا دائما أثق في صدقكم، وإن كان من الصعب علي أن أجد لكم عذرا-تأتي من محذورين إثنين . 1 احذروا "التونسة" والتونسة هي تسليط عصابة في صفة حزب أوحد أو أغلبي. فالحزب الأوحد أو الاغلبي ينتج كارثتين. الكارثة الأولى انه يقتل الحياة السياسية ويضعكم أمام البركان. والأفضل لكم هو انسحابكم من مسؤولية الشأن العام بشكل مباشر والاحتفاظ بمنصب شرفي يمثل الدولة، مع إقرار تعددية حزبية تجعل المواطنين في تماس مباشر مع الأحزاب يراقبونها من خلال الآليات الديمقراطية السلمية. هكذا لن يورطكم الحزب الأوحد أو الاغلبي في ما – وافترض فيكم حسن النية – لا تعلمون. الخطر الثاني في الحزب الاغلبي هو انه في لحظة من اللحظات لا يكتفي بان يكون حزب الدولة بل يريد من الدولة أن تكون دولة الحزب الاغلبي،أو يدخل هذا الحزب في مشروع أجنبي فيمتطي دبابات هذا الأجنبي ويتنكر للمهندس الذي جعل منه فرانكشتاين السياسة. 2 احذروا "المصرنة" والمصرنة بلغتنا هي اقتصاد الريع. إذا كانت الحروب تنتج أغنياءها الذين يحتكرون السلع الأساسية ويضاربون فيها، فإن السلم أو التسوية التي تكون أحيانا بعد الحروب تخلق قططا سمانا. لقد أطلق نظام السادات، ومن بعده نظام مبارك، يد طبقة جديدة في قطاعات التجارة والصناعة لكسبها إلى صف "السلام "الذي سيأتي بالمن والسلوى. سادتي المستبدين، إنني وخلافا لمستشاريكم أحذركم من اقتصاد الريع. لا تقتلوا المنافسة الحرة والنزيهة في الاقتصاد . الم تبشرونا بالمشروع الديمقراطي الحداثي؟ اقرؤوا النص الليبرالي في الغرب . تقول كل التجارب الاقتصادية الناجحة إن إنتاج الثروة لا يلتقي مع الهيمنة السياسية . تحدث عن هذا الفلاسفة والاقتصاديون والمؤرخون. إن تخويف منتجي الثروة غير مكلف في البداية/ لكن نتائجه رهيبة في الخاتمة. اسألوا البوعزيزي في قبره، بائع الخضار المتجول الذي أسقط تلكم التجربة "التنموية "التي كان صناع الوهم يقدمونها نموذجا للاحتذاء. البوعزيزي الذي عاش ربع قرن في الجوع أسقط بنعلي الذي عاش ربع قرن في الحكم.