كانت الأجواء تنذر بين الفينة والأخرى، باندلاع انتفاضة قد تغيير حاضر تونس الزيتونة. بدأت القصة عندما صادرت السلطات البلدية في 17 دجنبر الماضي عربة يدوية كان يتحصل الشاب محمد البوعزيزي الذي يحمل الشهادة الجامعية في العلوم الفيزيائية رزقه من خلالها، فذهب شاكيا يحاول استردادها، فصفعته إحدى الموظفات على وجهه. لم يستسغ الشاب التونسي طعم الصفعة، فغادر البلدية وأشعل النار في جسده، دون أن يدري أن النار التي أشعلها في جسده ستكون الشرارة الأولى لنار تنهي حكم دكتاتور حكم تونس لأزيد من 23 سنة بقبضة من حديد. لم يكن أحد يتوقع أن «صفعة» شرطية تونسية للشاب محمد بوعزيزي ستسقط الديكتاتور بنعلي. ولم يكن فرار الرئيس التونسي زين العابدين بن علي حدثا، بقدر ما شكل الشاب الذي هز عرشه، حدثا غير مجرى التاريخ بتونس، وكأن القدر ادخر جسد بوعزيزي ليشعل به انتفاضة شعبية عارمة سميت ب»ثورة الياسمين» شملت معظم المدن التونسية، كاشفةً عن هشاشة فادحة في الموقفين الأمني والسياسي، إذ إن الانتفاضة استمرت لأكثر من شهر كلفت التونسيين 90 شهيدا، وتطورت بشكل دراماتيكي حبس أنفاس المراقبين في داخل البلاد وخارجها. بعد أسبوعين من انتحار البوعزيزي، كانت تونس تنتظر عهدا جديدا في بداية عام جديد، كانت المظاهرات والاحتجاجات الغاضبة قد اشتعلت في كافة أرجاء تونس، ترك بعدها الرئيس التونسي منصب الرئاسة شاغرا، وظل بن علي معلقا بين السماء والأرض ينتظر إشارة من حاكم عربي. ظل المتظاهرون والمحتجون يرددون اسم «بوعزيزي»، من حيث بدأت الاحتجاجات بولاية سيدي بوزيد لتسري إلى مدن أخرى أكبر وأكثر تأثيرا مثل القيروان وسوسة وبنزرت ثم العاصمة نفسها، ولم تنجح قوات الأمن في وقفها. الشاب التونسي ترك للتاريخ وللذكرى رسالة عبر موقع الفايسبوك، رسالة وداع إلى أمه: «مسافر يا أمي، سامحني، ما يفيد ملام، ضايع في طريق ما هو بإيديا، سامحني كان عصيت كلام أمي. لومي على الزمان ما تلومي علي، رايح من غير رجوع. يزي ما بكيت وما سالت من عيني دموع، ما عاد يفيد ملام على زمان غدّار في بلاد الناس. أنا عييت ومشى من بالي كل اللي راح، مسافر ونسأل زعمة السفر باش ينسي''، كلمات قالها وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة بمستشفى «جراس»، اختزلت معاناة أمة تونسية. دخل العام الجديد، ومات بوعزيزي وهو لا يعلم أن الثورة التي أشعلها بجسده كتبت السطر الأخير في كتاب حكم بنعلي. «ثورة الياسمين» صدرت لدول عربية أخرى مشاهد آخر فصول حياة الشاب التونسي، وجد فيها شبان من دول أخرى وسيلة للتعبير عن كبت اجتماعي وسياسي، عمر لأزيد من سنوات في قلوب عربية تبحث عن استنشاق نسيم الحرية. «كلنا البوعزيزي» شعار أصبح لصيق اللسان، من الجزائر، عشرات الحالات اختارت طريقة البوعزيزي للتعبير عن مطالبها، وإلى مصر التي استفاقت على مشهد تونسي في أراضيها لم تألفه من ذي قبل، شاب اختار هو الآخر طريقة البوعزيزي. فتح التاريخ للشاب التونسي أبوابه ليدخل من أيها شاء، وبصمت حروف اسمه في سجلات الأرشيف ليبقى المشهد خالدا، والذكرى عزيزة عند أبناء الوطن، ليستجيب القدر لشعب أراد الحياة، وكسر القيد لينجلي بعده ظلام الليل معلنا فجر يوم جديد لن ينسى اسم محمد البوعزيزي.