مع التطورات السياسية التي عرفها ويعرفها العالم، لم يعد بإمكان أي نظام سياسي قيادة شعبه بالاستبداد والديكتاتورية، بل توج مسار تطور الترابطات والروابط والتفاعلات بتحويل مفهوم الحكامة، كمصطلح قديم، إلى ما يسمى بالحكامة الجيدة. لقد تطورت العلاقة ما بين الحاكم والمحكوم، وما بين الفاعلين بصفة عامة، بسبب حجم وتعقيد الترابطات بين الأشخاص والمجتمعات، وبين الإنسانية ومحيطها البيئي، وبين الدولة والمجتمع. ونتيجة لهذا التعقيد، لم يعد في متناول الحكام قيادة شعوبهم بالإكراه والتبعية، بل برزت الحاجة، بعد سقوط جدار برلين وإعلان النظام العالمي الجديد وبروز الحاجة إلى مواجهة التأثيرات السلبية لليبرالية الاقتصادية والعولمة في شقيها الإيديولوجي والثقافي، إلى ضرورة تحقيق الكفاءة المجتمعية بمقومات جديدة تربط طموح تقوية الفعل السياسي والاقتصادي بالتمثيلية الديمقراطية والاعتراف بالخصوصيات الترابية والمصالح المشروعة للفاعلين، وبضرورة تسيير وتدبير الترابطات والروابط بطريقة تفاوضية سلمية. إنه زمن الاعتراف بالطموحات المشروعة للفاعلين في سياق تنافسي بمكونات أربع لكل مكون منها دور خاص: المقاولة، السوق، والدولة الوطنية، والديمقراطية التمثيلية كإيديولوجية كونية رسمية متوافق بشأنها (يجب أن تضمن تناوبا حقيقيا على الحكم ما بين يمين ويسار). ونتيجة لهذه المتغيرات أصبحنا نتكلم عن الحكامة الجيدة في كل الميادين والقطاعات كالأمن والماء والطاقة والمالية والعلوم...إلخ إلى درجة أصبح الهم الأساسي بالنسبة للدول والمجتمعات هو تحقيق القدرة والكفاءة في المزج بين كل الوسائل (التقنية، والعلمية، والموارد البشرية، والمالية،...) وتوجيهها من أجل تأمين ازدهار حقيقي للأفراد والجماعات من خلال تنظيم التعاون والتعاضد بين الفاعلين العموميين والخواص والمجتمع المدني (تقوية التقنيات التعاضدية)، وتطبيق الشرعية والمشروعية كمبدأ عام وشامل للمسؤولية. إن تحويل تفعيل الحكامة الجيدة إلى أساس للاستقرار والوحدة والتنمية يتطلب تحقيق الرضا المجتمعي على منطق التدبير وأشكال ممارسة السلطة (الموافقة الشعبية) والانخراط العميق للساكنة في مختلف الأوراش التنموية (انخراط بقدرات ومؤهلات). بتطبيق الحكامة الجيدة، لا يمكن للعبة الديمقراطية أن تتحول إلى آلية لاستبداد الأغلبية وهيمنة مصالحها وإقصاء الأقليات، بل تكون أساس تحويل الدولة الوطنية إلى محرك محوري لسياسة التنمية، ومحفز لكل الفاعلين على التعبئة واحترام القواعد المتوافق بشأنها، والالتزام بالمسؤولية (القدرة والاستطاعة والمعرفة) بأبعادها الأخلاقية (الاعتزاز بالانتماء للمجموعة الترابية والوطن) والقانونية (اعتماد الشفافية، والقيام بالواجب، والبحث عن الأجوبة الأكثر تكيفا مع الأهداف العامة، وضرورة تقديم الحساب ). مفهوم الحكامة الجيدة إن مصطلح "الحكامة" مرتبط بمصطلح "الحكومة" كسلطة عمومية وهرم مهيكل على شكل بنيات مؤسساتية. وبإضافة كلمة "جيدة" لمصطلح "الحكامة" أصبحت الحكومة مجرد فاعل في صنع القرار عوض احتكاره، فاعل له مسؤولية محورية في خلق الالتقائية وتقوية فعل كل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين ومكونات المجتمع المدني. إن التداول الفعلي لمصطلح "الحكامة" ابتدأ في أواخر القرن 19 حيث واكب الانتقال من الاعتماد على الفلاحة إلى الصناعة (ظهور المقاولة الصناعية)، وتم طرحه رسميا في الخمسينات من القرن الماضي من طرف البنك الدولي موازاة مع طرح إشكالية ربط تأهيل الإدارة الحكومية بالنمو الاقتصادي وضرورة تحقيق العدالة والمساواة بين أفراد المجتمعات. وتطور المصطلح في التسعينات بعدما تم التركيز على الأبعاد الديمقراطية في الحكم، وضرورة تدعيم المشاركة السياسية، وتفعيل دور المجتمع المدني، في أفق ربط أسلوب تدبير شؤون الدولة والمجتمع بدرجة رخاء هذا الأخير. لقد تطور المفهوم نتيجة ثلاث عوامل أساسية أولها التطور الذي عرفته طبيعة ودور الحكومة، وثانيها التطور الأكاديمي والعلمي والتكنولوجي، وثالثها ضرورة استحضار العامل الخارجي في عملية صنع السياسات العمومية. إنه تحول تجاوز وضع مركزة التدبير الحكومي بيد بيروقراط ليحل محله الرواد، وبذلك تحول دور الدولة من دور منفذ إلى دور الموجه والمنشط. فبعدما كانت الحكامة مرادفة للتعاون بين مختلف مصادر السلطة في القرون الوسطى (الكنيسة، النبلاء، التجار، الفلاحون الكبار،...)، سيتم استعمالها فيما بعد من طرف البنك الدولي لتدل على أسلوب ممارسة القوة في إدارة مختلف الموارد من أجل الرفع من مستوى التنمية وضمان توزيع سلطوي ناجع للقيم. ولهذه الاعتبارات، لا يمكن للحكامة أن تكون جيدة إلا بتحقيق نسق من المؤسسات الرسمية والمجتمعية يكون مهيكلا على شكل شبكة من علاقات الضبط والتعاون والمساءلة المستمرة، هيكلة تمكنه من التعبير عن حاجيات الناس تعبيرا سليما، ومن الوصول إلى مستوى الاستعمال الأقصى للموارد البشرية والمالية والوسائل التقنية، وإلى درجة عليا في استعمال الآليات الضرورية لتقويم وتقييم مختلف السياسات وتصحيحها. إن الحكامة الجيدة لا يمكن لها أن تستقيم وتترسخ في منطق الفعل العمومي إلا عندما تتضاعف المجهودات وتتقوى الإرادات والاستعدادات لتوفير المقومات الضرورية الأساسية لإقامة الدولة الديمقراطية النافعة. إنها المرحلة التي ستتمكن من خلالها الدولة (المؤسسات والسلط) والمجتمع (منظمات المجتمع المدني) من التصدي بشكل دائم لسوء استعمال السلطة والنفوذ، أي الوصول إلى مرحلة تمارس فيها السلطة السياسية والاقتصادية والإدارية بمنطق يضمن إدارة مختلف الموارد بنجاعة وشفافية وفعالية. الحكامة الجيدة إذن هي نظام تدبيري متكامل يرفع من مردودية الفاعل إلى أقصاها ويسائله سياسيا وإداريا عن حصيلة منطق تدبيره وإدارته للموارد العامة. كما أكد الباحثون أنه كلما زادت حدة التعقيد والتنوع والدينامية وتعددت الترابطات والروابط داخل مؤسسة أو منظمة ما، كلما ازدادت الحاجة إلى تفعيل حكامة تمكن من الرفع من القدرة على خلق وتدبير شبكات تنظيمية ناجعة للفاعلين. وكلما كان التدبير محكما كلما سهلت عملية تحقيق النجاعة، والدقة، والمرونة في الاستجابة للحاجيات، والشفافية، وإنضاج التوافقات الايجابية، والإنصاف،...إلخ. بعبارة أخرى، بتفعيل الحكامة الجيدة تتخذ القرارات الجيدة في إطار المسؤولية المشتركة للفاعلين، ويتم تحقيق الأهداف المشتركة، ونيل رضا وثقة المواطنين. وعليه، يتضح أن الوصول إلى مستوى الحكامة الجيدة ليس بالأمر الهين لأنه يتطلب أولا الإرادة والاستعداد، وثانيا القدرة على إبداع الميكانيزمات الناجعة، وثالثا توفير الموارد التي تستجيب لطموحات رفع التحديات من أجل تحقيق الرهانات والتي نجد على رأسها تحقيق نجاعة التدبير الذاتي للمجتمع (تدبير التنمية بالشكل الذي يحقق جودة الحياة). كما ثبت عبر التجارب أن الوصول إلى هذا المستوى من النجاعة والمردودية في المجتمع ليس بالأمر السهل، بل يبقى مرهونا إلى حد بعيد بمدى التوفر على منظمات ومنظومات اجتماعية وسياسية واقتصادية مهيكلة بالشكل الذي يضمن اتفاق الفاعلين الاستراتيجيين على إمكانية اتخاذ قرارات بشكل جماعي، وعلى حل مشاكلهم من خلال منظومة من القواعد والمساطر المتوافق بشأنها. شروط تحقيق الحكامة الجيدة لا يمكن للحكامة الجيدة أن يكون لها مدلولا حقيقيا على أرض الواقع إلا في حالة توفير الشروط الضرورية التالية: الاعتراف بحق الفاعلين في الدفاع والتفاوض والترافع على مصالحهم المشروعة وحقهم في المشاركة في تدبير الشأن العام، قدرة الحكومات على بلورة المخططات الإستراتيجية من أجل تحقيق ذلك. ويتطلب الأمر في هذا الشأن بلورة مخططات واضحة المعالم والأهداف والعمل على تنفيذها بواسطة هياكل قوية (مؤسسات باختصاصات واضحة وعنصر بشري متميز بكفاءته وجودته ومرونته)، اعتماد الآليات الضرورية لتعميم التحسيس بضرورة المشاركة المجتمعية، وبأهمية المراقبة المستمرة، ضرورة التوفر على منظومة إعلام وتواصل ناجعة ومؤثرة تعتمد في إشعاعها لمقومات الحكامة الجيدة على بنك للمعلومات يسهل عملية اتخاذ القرارات بعقلانية، إقرار المساواة ومقاربة النوع في المشاركة (ترسيخ حق النساء والرجال في الحصول على الفرص المتساوية)، وتأمين فرص متساوية للاستفادة من الخدمات، وضمان الحرية في إبداء الرأي في البرامج والقرارات، وتوفر القوانين الضامنة لحرية المشاركة، وضمان شفافية القوانين وانسجامها في التطبيق، تقنين الحق في المعلومة وإفساح المجال للجميع للوصول والإطلاع عليها بالشكل الذي يمكنه من المشاركة الواعية في اتخاذ القرار، تقنين حرية الفاعل في التعبير على طموحاته والتفاوض بشأنها والتنسيق مع باقي الفاعلين من أجل الوصول إلى التوافقات المطلوبة، إنضاج الشروط الموضوعية للرفع من مستوى القدرة على التحكيم بين المصالح المتضاربة لمختلف الفاعلين وتوجيهها لتحقيق الإجماع بشأن المصالح العامة والعمل على تحقيقها بفعالية ورؤية إستراتيجية. التنمية والحكامة الترابية الجيدة نتيجة لهذا التطور، تجاوز القرن الواحد والعشرين زمن المقاولة والدولة كمكونين أساسيين للأوطان ليحل محلها زمن المدينة والتراب المحلي والإقليمي والجهوي. إنه بداية قرن جديد أصبحت فيه التنمية الاقتصادية مرتبطة أشد الارتباط بالدينامية الترابية المحلية وبمدى قوة التفاعل والتكامل ما بين العالمين الحضري والقروي من جهة، وما بين المدن الصغرى والمتوسطة والحاضرات الإقليمية والجهوية الكبرى من جهة أخرى (أقطاب التنمية الاقتصادية والاجتماعية). لقد أصبح تحقيق التنمية المنشودة مرتبطا أكثر بمدى وضوح توزيع الاختصاصات بين مستويات الحكامة ونجاعة تقييم وتقويم الفعل العمومي بشقيه اللامركزي واللامتمركز (الاستقلالية الترابية المعنوية والمالية المقرونة بالالتزام بحسن التسيير وضرورة التعاون بين مختلف مستويات الحكامة، كل واحد بوسائله، في رفع التحديات المشتركة وتجسيد التنوع والاختلاف كأساس لتقوية الوحدة). لقد اتضح اليوم أن التنمية الاقتصادية الوطنية لا يمكن تحقيقها إلا من خلال قدرة الوحدات الترابية على تدبير شؤونها بنجاعة ومسؤولية أمام المستويات الأخرى. وعندما نتكلم على الوحدة نعني بذلك، إضافة إلى تقوية الحس الوطني والغيرة على التراب الوطني ووحدته والاستعداد للتضحية من أجل حمايته، الرفع من نجاعة الفعل الجماعي للمجموعات البشرية، ومن مستوى القدرة والكفاءة في تنظيم وتعبئة كل الفاعلين حول المشاريع المشتركة، وفتح المجال للحوار والإنصات والتأثير المتبادل بشكل دائم، وبالتالي ترسيخ الشرعية والمشروعية وحرية التفاوض والحق في المبادرة لكل الأطراف والفاعلين والتركيز على عقد شراكات حقيقية بمراحل واستحقاقات مشتركة. خلاصة يتضح مما سبق أن بناء الحكامة الجيدة يتطلب المرور إلى حكامة ديمقراطية (الحكامة الجيدة هي حكامة ديمقراطية)، وهذا الهدف يتطلب كأولوية بلورة إستراتيجية محكمة للتنمية المؤسساتية، ويفترض أن تتضمن هذه الإستراتيجية خطة تجسد مسلسلا لتعليم وتكوين الفاعلين وتنمية قدرتهم على مواجهة المشاكل والتعرف على الحدود والموارد المتوفرة. كما اتضح من خلال التجارب أن عملية البناء هذه لا يمكن أن تتم إلا عبر التراكم التدريجي التصاعدي للمكتسبات في هذا الشأن، لأنه ثبت أن التغييرات الجذرية لا تغير إلا القواعد الشكلية (Formelles) بدون المساس بالقواعد اللاشكلية (Informelles). الحكامة الجيدة إذن، والتغييرات المؤسساتية المرتقبة المرتبطة بها، تحتاج بالضرورة إلى زعامات سياسية واقتصادية وثقافية مؤهلة لقيادة التغيير في المجتمع المتنوع والمعقد في ترابطاته. الحاجة إلى هذه الزعامات ناتجة عن تعقيد منظومة المصالح وعن عدم إمكانية فرض فاعل معين على آخر ضرورة التعامل والتعاون معه بالقوة والتهديد. إن إنضاج اتفاقات مؤسساتية جديدة ناجعة وعادلة تتطلب تميز الزعامات بالحكمة والتبصر والصبر والخبرة في حل رموز النوايا والدوافع. وعليه، فعملية شرعنة الزعيم مرتبطة أساسا بمستوى ثقة الفاعلين والمواطنين فيه، وبمشروعيته الذاتية والفكرية، وبمصداقيته وخبرته في تدبير النزاعات وتجميع القوى. وأخيرا نقول، بتطبيق الحكامة الجيدة، لا يمكن لأي فاعل أن يفرض توجهه الذاتي على الآخرين، بل على عكس ذلك، أصبح تدبير قضايا الشأن العام ينبني على الحوار والتفاوض المؤدي إلى خلق الالتقائية التي تنتصر لخدمة الصالح العام.