رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مجلس الأمن.. بلينكن يشيد بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    جرسيف .. نجاح كبير للنسخة الرابعة للألعاب الوطنية للمجندين    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    زاكورة تحتضن الدورة الثامنة لملتقى درعة للمسرح    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك        بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    روسيا تمنع دخول شحنة طماطم مغربية بسبب "أمراض فيروسية خطيرة"    نادي المغرب التطواني يقيل المدرب عزيز العامري من مهامه    اتهامات "بالتحرش باللاعبات".. صن داونز يعلن بدء التحقيق مع مدربه    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    دشنه أخنوش قبل سنة.. أكبر مرآب للسيارات في أكادير كلف 9 ملايير سنتيم لا يشتغل ومتروك للإهمال    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    "التقدم والاشتراكية": الحكومة تسعى لترسيخ التطبيع مع تضارب المصالح والفضاء الانتخابي خاضع لسلطة المال    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تثمينا لروح اتفاق الصخيرات الذي رعته المملكة قبل تسع سنوات    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    قضايا المغرب الكبير وأفريقيا: المغرب بين البناء والتقدم.. والجزائر حبيسة سياسات عدائية عقيمة    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    دورية جزائرية تدخل الأراضي الموريتانية دون إشعار السلطات ومنقبون ينددون    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    تبييض الأموال في مشاريع عقارية جامدة يستنفر الهيئة الوطنية للمعلومات المالية    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    ترامب يهدد باستعادة السيطرة على قناة بنما على خلفية النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025        مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ذيْلُ الطَاوُوس.. حِكَايَاتٌ وَهُمُومٌ فَوْقَ بَعضِها!
نشر في لكم يوم 18 - 10 - 2019

أدركنا منذ نعومة أظفارنا، وغضاضة إهابنا، وطراوة عُودنا، وشرخ شبابنا، وريعان عمرنا أنه فى هذا البلد القصيّ تغيب أو تنام الشمس بعد رحلتها الطويلة من المشرق البعيد..! هذا البلد الذي وَسَمَه الرحّالون والمؤرّخون فيما مضى من الأزمان ب: " ذيل الطاووس" بين مناكبه قيّض الله لنا أن نرى نورَ الحياة ، فى هذا الصّقع ذي التضاريس الطبيعية الوعرة ، والأخاديد الجبلية الصّعبة، عشناعلى الفطرة ،وترعرنا على البداوة ،والبساطة، ونشأنا على عشق الحياة الحرّة الكريمة . فى ربوعنا، وأحيائنا، وأرباضنا، ومرابعنا ومرابضنا، وقرانا، ومداشرنا، وضِيَعِنا كنّا ندقّ أبوابَ الحريّة الحمراء دقّاً عنيفاً حتي نتسربلَ بألوانها الزّاهية القانية ولا نرضى أبداً بها أو لها بديلاً . كنّا ندقّ أوتادَ الشهامة، والنخوة .والكرامة. حُسنُ الجوار كان دأبنا ، والذّود عن حوضنا، وجيراننا كان ديدننا، وعدم الرّضى بالظّلم وقبول الضّيم، والجّفوة والجفاء كانت غاياتنا ومرامينا، كانت شيمنا هممنا ، و مبادؤنا سجايانا ، وعاداتنا العريقة، وتقاليدنا الحميدة ،وعوائدنا الرّاسخة التي تربّينا على منوالها، وترعرعنا فى كنفها كلّ تلك الشّيم والخصال كانت نبراس حياتنا فى مسالك ومشابك حياتنا، كانت تصرّفاتنا تلقائية، ومعايشاتناعفوية طبيعية، فطريّة ،وحياتنا بسيطة خالية من التصنّع، والمصانعة،والمحاباة والمداهنة .
فى هذا الصّقع النائي الجميل ، كنّا نعيش أحراراً ، ونتغنّى بالحرية وذكر الله كطيور القطا والكروان، ننتقل من حقلٍ إلى حقل، ومن بستانٍ إلى بستان، ومن غصنٍ إلى غصن، ومن زهرةٍ إلى زهرة ،نستنشق هواءَه العليل، ونتغذّى بخيراته، ونعمه وثماره، وحبوبه، وقطوفه،وحصاده، وبكلّ ما طاب واستطاب ممّا كانت تجود به علينا أرضُه الطيّبة،وطبيعتُه السخيّة، كنّا نستمتع بحرّه وقرّه، وببحره وسمائه ، وشمسه وقمره، وجباله وغاباته، وهضابه وآكامه، ووديانه وأنهاره، وسهوبه ومرتفعاته ووهاده، وكواكبه ونجومه، كلّ ما لم تلمسه يدٌ بشرية آثمة دخيلة لم يكن يأتينا منه إلاّ الخير العميم، وكلّ ما يُرضي النفس، ويُسعد القلبَ، و يُنعش الرّوحَ ،ويُحيي الوجدان، ويَشدّ الكيان.
اللّيالي الحالكات..
أصاب صرحَ الصّدق، والنبل، والوفاء،والشرف، والكرامة شرخ ٌعميق. لم تعد الأمور اليوم كما كانت عليه بالأمس القريب ، هؤلاء الأقصوْن الأبعدُون، ذوو السِّحَن الغريبة ، والشعور الناعمة المنسدلة ، كانوا يقومون بين الفينة والأخرى بغاراتٍ قرصنيةٍ على أراضينا وشطآننا، ودورنا وممتلكاتنا، ومزارعنا، وغلاّتنا ،لم نكن نتوانى أو نتردّد قيد أنملة فى دحرهم ، وصدّهم ، وردّهم على أعقابهم من حيث أتوا، فيهربون مخذولين منكفئين كالأرانب يَجرّون أذيالَ الخيبة، والمهانة، والهزيمة والمذلّة ،فارّين بجلدهم إلى حيثما جاءوا أو قدِموا، من داخل البرّ القريبّ، أو من وراء البّحر البعيد . لقد أصبحوا اليوم يُفتُون ولا يفتَوْن ..! ، وأضحى التنائي بيننا وبينهم بديلاً عن تدانينا ، وناب عن طيب لقيانا بهم تجافينا.. ! لقد أمسى الألم يعصرنا، والمعاناة تهدّنا، والحَنقُ يخنقنا، والمرارة تعتصرنا، نتنفّس الصّعداء، ونرفع أنظارنا إلى السّماء، ونجيل بأبصرارنا فى فضاءاتها الواسعة المترامية الأطراف، ونحدّق فى سديمها السّرمدي الأبدي الفسيح ، وبقدَرٍ مُشْعَلٍ على شفاهنا نرجوها أمراً فى قرارة أنفسنا، ونستعطفها سرّاً فى أعمق أعاميق أعماقنا، نرجوها بلسماً شافياً، وترياقاً مُداوياً لجروحٍ غائرةٍ لا تندمل..!
نعاتبُ الأيّامَ المدلهمّات، ونلوم الليالي الحالكات التي لا تُؤمَنُ بوائقُها ، عسىَ هذا الكرب الذي أمسينا فيه يكون بعده فرَجٌ قريب ، وعسى هذا اليأس الخانق يتلوه الرّجاء، ولعلّ الله يأتي بعد هذا الليل الطويل البهيم بصبحٍ مُشرقٍ بسيم ، ما برحنا نشكو الدّهرَ القاهر، ونناغي الزّمنَ الغادر،ولسانُ حالنا جهاراً يقول مع الشاعر المنكود الطالع جَحْظة البرمكي : أ يا دهرُ ويحكَ ماذا الغَلطْ / وضيعٌ عَلاَ ورفيعٌ هَبَطْ..!
دوامُ الحَال أمرٌ مُحَال
إنّها عجلة الزّمن التي لا تني، ولا تتوقّف، ولا ترعوي التي تذكّرنا بعربة أعداء " يوليوس قيصر"عندما وقع فى الأسر ، لم يكن نظرُه يحيد عنها وهي تدور،وتدور، تعلو إلى أعلى ، ثمّ سرعان ما تنزل خلال دورانها فى ذبذبة وتوتّر إلى أسفل ، ثم لا تلبث أن تعيد الكرّة تلو الأخرى من أعلى إلى أسفل ، ومن أسفل إلى أعلى، وعندما سأله سجّانوه، وحارسوه أن لماذا لم يحد نظرُه قطّ عنها طوالَ الطريق..؟ أجابهم قائلاً : إنّها تذكّره بحاله،وبحال الدّنيا، تارةً فوق، وطوراً تحت ، تأمّلوا حالي أين كنتُ بالأمس القريب، وأنا القيصر الآمر النّاهي، وانظروا أين أصبحتُ اليوم..!
لا من رقيب ، ولا من حسيب،ولا من مُجيب ، لقد غدت الممتلكات تقايَض مقابل فتاتٍ من العيش الرّخيص لا يسدّ رمقاً، لا يُسمن، ولا يُغني من جوع ، ذووها خانعون، قانعون، راضُون ، مستسلمُون ، كلّ آمالهم أن تمطر السّماءُ يوما ليعمّ الخيرُ،والبركةُ ، وينزل المُزْنُ الرّائحُ الغادي..!
المالُ يا صاح يَسترُ كلَّ عَيْبٍ فى الفتىَ، والمال يا صاح يرفعُ كلّ نذل من حيث أتىَ ،المالُ يا صاح أضحى فى أيامنا الكئيبة ( زينة الدّنيا وعزّ النفوسْ.. يُبهي وجوهاً ليس هي باهيَا... فها كلّ من هو كثير الفلُوسْ .. ولّوْه الكلامَ والرّتبةَ العاليَا). والدراهم يا صاح كثيرة وافرة هي فى الأماكن كلّها، تكسو الرّجالَ مهابةً وجمالاً … فهي اللسانُ لمن أراد فصاحةً… وهي السّلاح لمن أراد قتالاً..!.
أجل، ما أكثرهم،هؤلاء الأقربون، لقد ولّوهم الكلام َ، والرّتبةَ العاليا، من ذوي الأصهار والأنصار،أنصار العصر،أنصار صناديق الإقتراع والمحاباة ، ألم يقل صاحب "مئة سنة من العزلة "غابرييل غارسيا مركيز ذات مرّةٍ لاصدقائه بعد أن صفّقوا له طويلاً: ليتَ تصفيقاتكم هذه كانت أصواتاً فى صناديق الإقتراع..! المال أضحى رديفَ المداهنة والمصانعة فى زمننا هذا الحزين، الشّاحب، المُثقل بالهموم والرّزايا ، والدمّ ، وليس للمعوزين،الكادحين المحرومين، العسفاء ، هؤلاء الأقصوْن الأبعدُون الذين يَعضّون على الحديد أوعلى الحجر الصّلد عضّا مؤلما حنقاً، وغيضاً، وكرباً، وضيماً. يمشون صبباً ، النّاؤون يرومون إقصاءَهم، وتقويسَهم، وتقويضَهم، وثنيَهم، ولكن هيهات، الأماجد منهم قدّموا أرواحَهم دفاعاً عن حوزة الوطن وحوْضه، أعطوا النّفسَ والنّفيس ذوداً عن عزّته، وصوناً لكرامته، إنهم يُسامون سوء الصّنيع، ويعانون البعاد والتباعد، والإقصاء والتنابذ، والتهميش والجحود.
الحواضر الفيحاء
الحواضر الفيحاء ما إنفكّت تزدان، وتزدهي فى حفل بهيج، أقيمت المواكب والكواعب ، ونثرت الأزاهر، والمناشير ، ورشق الناس بثمرات الكرَز الرّطبة والمُحمرّة كالعُنّاب، وصدحت الموسيقى ، البياض الناصع يملأ الأجواء والأرجاء ، فالخطب ليس بالهيّن اليسير، إنّه إيذان ببزوغ وإنبثاق إشعاع حضارة متطوّرة، وإنتشار بريق مدنية متقدّمة، والتبشير بمبادئ (الحريّة،والمساواة، والإخاء) ، وبنشر لغة عريقة راقية رقيقة لثغاء، لقد أوعزوا حتّى للعلماء وللفقهاء الأجلاّء فى منابر معاهدهم، ومصاطب كتّابهم، وفى مُدرّجات جامعاتهم، بأن يَنظموا على شاكلة الآجرومية أو منظومة بن عاشر قصائد عصماء لتسريع وتسهيل وتيسير تعليم هذه اللغة وتعميمها على أوسع نطاق، هذه اللغة السّاحرة الرّخيمة التي يخرّ لها الجلمود ، والصّخرُ يسجد لطلاوتها ونعومتها…! الأعمدة الرّاسيات، والسّواري الرّاسخات ذات الأسماء الرنّانة ، والجرْس الموسيقي المميّز ما فتئت تعمل على تمرير الإرث الساطع،والتراث الناصع،حِكَماً وعِلماً، وأدباً وشعراً، وفقهاً، ولغةً، وتاريخاً، وفلسفةً، وحساباً، وفلكاً، وتوقيتاً، وصرفا، ونحواً،وغناءً، وطرباً، وطبخاً، ونفخاً، وسياسةً، وكياسةً، وذكاءً ،ودهاءً، وفخّاراً، ودثاراً، وصناعةً وإبداعاً، وعِطراً، وزهراً، وبناءً، وعُمراناً، ووضعاً،وتأليفاً، وقزّاً، وحريراً، وطرزاً، ونَسْجاً،وذهباً، ولُجيناً، وعسجداً، وزمرّداً وديباجاً…! إنّها ما زالت تدني وتقصي ، ما فتئت تنهال وتنثال بالجُحود المُجحف ، بينها وبين الآخرين برزخ واسع، ويمّ شاسع، وبحر عميق لا قعر، ولا قرارَ له ، إنّها ما برحت تؤجّجُ الموقد، فالصّقيع زمهرير، وتلقي الحطبَ فى أتون الكنّ والكانون..! .
البَقر السّمان وَعَظْمَة هبنّقة !
القويّ السّمين الثخين ما زال يزداد قوّةً وسمنة ، والضعيف الهزيل ما فتئً يزداد ضعفا وهزالاً ،مثلما كان عليه الحال فى الماضي السّحيق فى "جاهلية" القوم الذين رووا لنا أخباراً طريفة ومثيرة هن "هبنّقة " الذي كان يُضرب به المثل فى الحُمق، والخَبل، والجنون فيُقال "أحمق من هبنّقة "،والذي قيل فى حقّه، إنّه من حمقه عندما كان يعمل راعياً للبقر عند أحد الميسورين ، كان يقتاد البقرَ السّمان إلى المراعي الخصبة حيث وفرة الأعشاب، وكثرة الكلأ لترعى ، ويأخذ البقر الهزال إلى الأراضي القاحلة الجرداء من الأرض الكُلام ( بضمّ الكاف) ويسرحها هناك، وعندما يأتي صاحبُ البقر ويرى ما رأى.. يستشيط غضباً ويعاتبه ويؤنّبه، فيسأله أنْ لماذا يفعل ذلك…؟ فكان يُجيب : أتريدني أن أصلح ما أفسده الله، أوأن أفسد ما أصلحه ؟، فالبقر السّمان تستطيع أن تأكل وهي ذات شهيّة طيّبة، لهذا أذهب بها حيث وفرة المراعي والكلأ ، وأمّا البقر الهزال فلا شهيّة لها وليس فى مقدورها أن تأكل لضعفها ووهنها، ولهذا أذهب بها إلى القِفار القاحلة، والأرض الكُلام الصّلبة التي لا زرع ولا ذرع ولا كلأ فيها…! وما إنفكّت هذه الحِكمة سائرة، مأثورةً بيننا إلى اليوم!
كان هبنّقة كذلك من حمقه كثيراً ما ينسى نفسَه ، وللتغلّب على هذه الآفة توصّل إلى حلٍّ ناجعٍ على طريقته حتى يتعرّفَ على نفسِه بسهولة ويسر، ولا ينسى نفسَه مرّة أخرى، فوضع خيطاً سميكاً من قنّبٍ على عنقه، وعلّق فيه عظمةً صغيرة كان قد وجدها فى أحد القفار، وكان كلّما إستيقظ من النّوم فى الصّباح يبحث عن العظمة المعلقة فى عنقه، ويلمسها بيده وبها كان يُدرك ويتأكّد أنّه هو، وحدث ذاتَ يومٍ أن نام عند أخيه ، فقام أخوه فى جنح الليل ،ونزعَ عن طوْقه العَظْمة وعلّقها حول عنقه، وفى الصّباح عندما إستيقظ هبنّقة ولم يجد العظمة معلّقة عليه ذهب عند أخيه ليسأله، فلمّا رأى العظمة معلقة حول عنق أخيه أمسكَ بها وقال له : يا أخي… أنتَ أنا، فمن أنا؟ !.
أيّامٌ تمرُّ..وليالٍ تَنقضي
هكذا حال الدّنيا يا صاح ، أيام تمضي ، وليالٍ تنقضي، وهُمْ ما فتئوا ينظرون إلى الأسفل من الأعالي شزراً ، إلى هؤلاء الذين هدّهم العَوَز، وأنهكتهم الخصاصة، يمشون عاصبي البطون مُرملين من فرط حرقة الطّوىَ، الآخرون يناطحون عنانَ السّماء، يعانقون هيادبَ السّحاب ،يلامسون الثريّات، وبنو طينتهم، وأبناء جلدتهم ملتصقون بأمّهم الأرض الثّرى،لاخوف عليهم ولا هم يحزنون، سقطتهم بلا رضوض ، وأمّا سقطة "الأعلوْن" فكاسرة قاصمة، إنكم لن تخرقوا الأرضَ، ولن تبلغوا الجبالَ طولا، ففى القمم الشّمّاء تشتدّ هبوبُ الريّاح،إنها هناك أكثرعتوّا وقوّة ، والزّوابع والتوابع بها لا تني ولا تنتهي، فاخفضوا جناحَ الذلّ ، وطأطئوا الرؤوسَ، ولا تشرئبّوا بالأعناق، فما أظنّ أديمَ الأرض إلاّ من هذه الأجساد ، سيرُوا إن إسطعتمْ فى الهواء رويداً، لا إختيالاً على رفات العِباد، فَرُبَّ لحدٍ قد صار لحداً مراراً ، ضاحكٍ لتزاحم الأضداد !. أصبحنا في عُرف الآخرين شبيهين بالمجّانين الذين يُفنون أعمارَهم في الأوهام والخيالات، والآهات، والمهاترات.هؤلاء هم الذين يعانون أكثرَ من غيرهم من مختلف ضروب البؤس واليأس ،والتعاسة والنكد والبغضاء والضنك ،لقد كسدت أسواقُ الفكر الخلاّق، ونشطت حركاتُ التقاليع الرّخيصة في دنيا الفنون والجنون ! البشرية غزا الشيبُ مفرقَها ، وأضاعت عمرَها في ويلات الحروب والتقاتل،والتطاحن، والتشاكس، والتنابذ، والتباعد، والبغضاء، نأسىَ ونتأسّى، ونلتاع حزناً أيّها الباذخون المُتخمون ، ثوبوا إلى رُشدكم ، إرجعوا إلى أنفسكم،عودُوا عن غيّكم ، فقد بلغ السّيلُ الزّبىَ ، وفاض الجَامُ ، وطفح الكيلُ، وربَّ عظيمةٍ دافعت عنهم، وقد بلغت نفوسُهم التراقي!
ذيلُ الطاوُوس..!
وفى الختام ،ولا ختام، ماذا عن " أجمل ما فى الطاووس"، فلنتأمّل فيما ورد من سببٍ فى إطلاق هذا الإسم على هذا الصّقع النائي البعيد ، إذ يُحكى أنّ رحّالة من أهله ينحدر من حاضرة طنجة العالية زارَ ذات مرّةٍ بغدادَ التي كانت تُسمّى إبّانئذٍ مدينة السّلام ( يا لسخرية الأقدار) ! فى زمنٍ لم تكن فيه القارّة الأمريكية قد إكتُشِفتْ بعد ، وكان الناس يعتقدون فى ذلك الأوَان أنّ العالمَ ينتهي عند هذا السّاحل الأقصى، وفى إسبانيا بمنطقة جلّيقة أو غاليسيا مكانٌ يُسمّى عندهم (فينيشتيرّي) ومعناه حيث تنتهي الأرض، ويُقال إنّ الفاتح عقبة بن نافع دخل بحصانه فى مياه المحيط الأطلسي على السّواحل المغربية حتى غطّتْ مياهُ البحر قوائمَ فرسه ، وإستلّ سيفَه، ورفعه إلى أعلى مخاطباً المحيط الهادر : "والله لو كنتُ أعلم أنّ وراءك َ أرضاً لفتحتها بسيفي هذا ! المهمّ أنّ رحّالتنا عندما كان ببغداد رمقته عيونُ الخليفة( التي غدت تُنعتُ فى عصرنا ب "المُخبرين..!) الذين ما أن أبلغوا الخليفة بوجوده بالمدينة حتّى أمرجندَه بإحضاره إليه فوراً، فلمّا مثل بين يديه قال له متهكّماً ساخراً : يا مغربي، قيل لي إنكَ قدِمتَ من بلدٍ قصيٍّ ، وقيل لي كذلك أنّ الدّنيا على شكل طائر كبير، ذيلُه بلدُك المغرب الأقصى لِبُعده ، فأجابه الرحّالة على الفور: أجلْ يا أميرَ المؤمنين هذا صحيح، ولكنّ الذين أخبروكم بذلك نسوا أن يقولوا لكم أنّ هذا الطائر هو الطاووس..وأنّ أجملَ ما فى الطاووس ذيلُه !
* عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.