"إن البغاث بأرضنا يستنسر " مثل عربي قديم يضرب في معرض استئساد الضعيف في موطن الضعفاء، ولعل المثل في معناه العميق ينطبق على بعض الذين خرجوا دون سابق إنذار ليبرزوا عضلاتهم الكلامية المفتولة ويسمعوا أصواتهم التي لم يسمع بها قط قبل، والسبب في خروج هؤلاء عن صمتهم هو دفتر التحملات الذي أقرته وزارة الاتصال الوصية على قطاع الإعلام ، الذي لم يرق لبعض الأطراف فصارت تتشدق بكلمات طنانة، وعبارات سمجة، وأساليب باتت مستهلكة خرجت إلى التهديد الصريح بضرورة إعادة المناقشة حول ما جاء في الدفتر من مقتضيات وتوصيات كانت نتيجة حوار دام شهورا وشاركت فيه جميع الأطراف دون استثناء . لقد أصيب هؤلاء بسعار وهيجان غريب مرده إلى بعض ما تضمنه دفتر التحملات الذي حرك المياه الآسنة لتظهر تماسيح كنا نظنها عما قريب دلافين ، وهيج بعض الذين كانوا يظهرون على الدوام بمظهر المدافعين عن الديموقراطية، فإذا بهم يلبسون لبوس الديكتاتورية الرافضة لأحكام الدستور وصناديق الاقتراع ،وكان الذي أخرج هؤلاء عن صمتهم وأطال ألسنتهم المبلوعة ردحا طويلا، وكشر عن أنيابهم وجعل منهم مدافعين وهميين عن الحرية والتنوع ولانفتاح هو ما جاء في دفتر التحملات من توصيات تعيد القناة الثانية إلى السكة الصحيحة ،ولم تكن هذه المرة الأولى التي يعمل فيها بدفتر للتحملات من لدن الوزارة الوصية ،لكن الجديد الذي لم يرق للبعض وكأنه المتكلم بلسان الشعب، هو أن دفنر الحملات فيه ما فيه من أمور تشكل خطرا على هوية القناة الثانية التي تسهم في ترفيه المواطنين على حد زعمهم، وتنفتح على الآخر الذي يختصرونه في فرنسا وكأن العالم ليس فيه ما ننفتح عليه سوى فرنسا . إن الحسنة التي تحسب لهذا الدفتر أنه حرك المياه الراكدة وأظهر إلى أي حد أصبح التيار المناهض للإصلاح والمعادي للديموقراطية والشرعية الدستورية والحانق على هوية المملكة الدينية مستقويا مستئسدا، ويعد نفسه فوق القانون، يفعل ما يريد ويقول ما يشاء دون حسيب أو رقيب. ينبغي ألا ننخدع بتعليلات هؤلاء التي تجعل الحوار يسلك طريقا مغايرا للذي ينبغي أن يسلكه في الأصل ،وعلى رأس هذه التعليلات: تهديد هوية القناة الثانية،وانفتاحها على الآخر،والسؤال هنا :عن أي هوية يتحدثون ؟ ربما يقصدون هوية الفرنسية والضحالة الفكرية والبرامج الغنائية والمسلسلات التافهة ،وبأي انفتاح يتبجحون ؟ هل النشرة الإخبارية الفرنسية انفتاح أم البرامج الحوارية بالفرنسية والتي لا يراها أحد ؟ إن كان الأمر كذلك فتعسا له من انفتاح أعوج أعرج معاق، إن الانفتاح المعمول به لدى كل دول العالم يروم التعريف بهوية البلد وثقافته ولغاته وتاريخه،فهل نجد في تلفزتنا شيئا من هذا في برامجها الحوارية باللغة الفرنسية، أم هل نجد شيئا من ذلك في نشرات الأخبار التي تبعث على التقيؤ والغثيان ، فالواضح أن هاته الطائفة المدافعة عن وضعية الفرنسية في قتاة مغربية تفهم هؤلاء الانفتاح فقط من زاوية الرقص والغناء وتسويق صورة لمغرب على مقاسها ؛ مغرب العري والعهر والانحلال والميوعة والتفسخ ،ولا أدل على ذلك من تلك البرامج الغنائية التي تصرف عليها ملايين الدراهم التي كان من الأجدى صرفها في تشجيع المواهب في مجالات العلم والثقافة والأدب والفن الملتزم. ولعل المثير أكثر من أسطوانة الانفتاح المشروخة هو أن نجد من يدافع وباستماتة عن إعلانات القمار على القناة مركزا على ما تدره من أرباح ومتناسيا أخطارها الكارثية على المجتمع الآن ومستقبلا،وعلماء الاجتماع والنفس كلهم يقرون بخطورة القمار والميسر ويعدونه أخطر الأمراض الاجتماعية على الإطلاق ، ولكن غرض هؤلاء المضمر هو إنتاج شباب متواكل لا يعتمد على نفسه، ويحصر الحياة في ضربة حظ واحدة بتعبئة رقم أو ورقة ، ولا شك أن الدعوة إلى الإبقاء على إعلانات القمار على التلفزة أمر لا أخلاقي وحري بالداعين إليه أن يخجلوا من أنفسهم وتاريخهم النضالي والسياسي الذي يتهاوى شيئا فشيئا. إن السؤال الذي نبغي له جوابا شافيا وافيا عن أي هوية يتحدث هؤلاء الذين هبوا هبة رجل واحد متهمين وزيرا من حكومة ديموقراطية بأحادية اتخاذ القرار ؟ إننا عندما نتحدث عن هوية قناة داخل بلد ما وتتلقى دعمها من أموال الشعب والدولة فالأحرى أن تعكس هوية الدولة في لغتها ودينها وعاداتها وتاريخها لا هوية غريبة عنا .والمتتبع للقناة يرى أنها في واد واهتمامات الناس وانشغالاتهم في واد، لذلك فهي بعيدة عن نبض الشارع، وهموم الناس، أضف إلى ذلك أن قناتنا العتيدة عدو للنجاح بامتياز ومثبط للعزائم ومسهم في تفسخ المجتمع بما تبثه من برامج غنائية رديئة تقدم المغني أو المغنية على أنه المثل الذي ينبغي أن يحتذى، وبهذا فهي تدعو الناشئة ضمنا إلى ترك طريق العلم والمعرفة والعمل والجدية. لقد خرج البعض من مسؤولي البلاد السابقين وأبانوا عن خلفياتهم الأيديولوجية المتعفنة المريضة معارضين مسلسل الإصلاح، تاركين النقاش في عمق دفتر التحملات مركزين على أوقات الصلوات ورفع الآذان والبرامج الدينية ، وقالوا فيما قالوا:"إن الخلفي يريد خونجة التلفزيون" وردد آخر :"الخلفي يريد أسلمة التلفزيون" ونقول لهؤلاء: إلى أي بلد ننتمي ؟ وأي ديانة نعتنق؟ إلى متى ستعبرون عن آراء شاذة لا تعبر عن رأي الشعب ومعتقده وهويته ،والأدهى أنهم يفرضون وصاية مقيتة على الشعب وحريته واختياراته.لذا ندعو هؤلاء إلى احترام أنفسهم لأنهم بهذا إنما يفقدون ما بقي لهم من مناصرين من هذا الشعب المرتبط بدينه وتاريخه ويريد أن يرى هويته بارزة على ما يشاهده في تلفزته،ونقول لهؤلاء على الأقل احترموا نصوص الدستور التي تنص على إسلامية الدولة وعربية لغتها مع الأمازيغية وإمارة المؤمنين ، أم أن دماء الديكتاتورية تجري في عروقكم ولا تعترفون بالديموقراطية إلا إذا كنتم في منصب المسؤولية؟. من جانب آخر نتساءل مع هؤلاء:أليست الحكومة الحالية التي أقرت دفتر التحملات حكومة منتخبة بطريقة ديموقراطية؟ ألم يقطع دفتر التحملات سائر المراحل التي يبنغي أن يقطعها قبل تنزيله على أرض الواقع؟ لماذا هذا السعار بعد الموافقة وبداية التطبيق؟ لا شك أن أحفاد فرنسا في المغرب وجهات أخرى لم يكونوا يتوقعون البتة تطبيقا فعليا وسريعا لما جاء في دفتر التحملات وهنا مربط الفرس. إن خرجات بعض المعارضين لدفتر تحملات الخلفي والمنتمين لبعض الأحزاب المعارضة يمكن أن يكون مقبولا إن قام على مبررات سليمة بعيدا عن توظيف الأيديولوجية وترداد مقولات جوفاء مستهلكة من قبيل" الخونجة ،الأسلمة، والانفتاح" ،أما أن تصدر هذه الخرجات الإعلامية عن موظفين تابعين للوزارة وخاضعين لوصايتها فهنا تكمن الغرابة والخطورة في آن ، ويجعل المسألة تسلك طريق الانقلاب والثورة على الرؤساء وعلى الشرعية الديموقراطية للدولة،ويكشف في الوقت نفسه على عقلية كثير من المسؤولين الذين لا يؤمنون بالديموقراطية، ويحسبون أنفسهم آلهة منزهة وفوق المسؤولية والمحاسبة. لكن ما الذي يدفع هؤلاء للخروج في وقت كهذا مرددين نفس الموال متباكين على الفرنسية وهوية القناة التي سيقضى عليها ؟ يرى المتتبعون أن هؤلاء إنما تحركهم جهات نافذة لا مصلحة لها في التغيير وتريد أن تبقي الأمر على ما هو عليه، حيث إنها كانت تنتظر هدوء عاصفة الاحتجاجات لتعود إلى مكانتها وعادتها القديمة ،لكن الحكومة الحالية فاجأتها بالعزم الأكيد على تنزيل مقتضيات الدستور- ولو بشكل محتشم- وهو ما يدفعها لشن حرب استباقية قبل أن تستفحل الأمور وتتسع رقعة الإصلاح. إن الخلاصة العامة التي يمكن الخروج بها أن الإصلاح في المغرب يصعب ويتعسر لوجود عقليات لا زالت دماء الفساد تجري في أوصالها ،وإذا كان الإصلاح متعسرا فهو ليس مستحيلا ،لذلك فمطلوب منا على وجه الإلزام أن ننخرط جميعا في الإصلاح وندافع عن مكتسباتنا وهويتنا وتاريخنا الذي يريد البعض طمسه ومحوه بدعوى الانفتاح والحرية ، وأمام كل هذا صار مطلوبا من الحكومة أن تبدي صرامة منقطعة النظير ضد كل مناهض للإصلاح متخذة نصوص الدستور مجعا ونبراسا لها حتى تقطع الطريق على هؤلاء الذين أعلنوا صراحة عن مناهضتهم للإصلاح وتمردهم على الشرعية الدستورية والديموقراطية، وختاما ندعو هؤلاء إلى أن يخجلوا من أنفسهم فقد جثموا على أنفاس الشعب سنوات طويلة وآن لهم أن يرحلوا وأفضل مكان يقصدونه هو الأم فرنسا. استاذ اللغة العربية