ليست روسيا كأميركا: في كل ما يتعلق بوجود سوريا كدولة وكمجتمع. ليس لدى أميركا أي حرص على وجود سوريا الدولة والمجتمع، بل هي تشجع أي فعل يمكن أن يفضي إلى تقويضهما ودمارهما، ما دام الصراع في المنطقة يتصل بإسرائيل، التي لا شك في أنها تريد إطالة أمد الصراع في سوريا وتؤيد إضفاء طابع عنيف عليه، لأن من غير الممكن تدمير سوريا دولة ومجتمعا من خلال ثورة سلمية، خاصة إن كانت تطالب بالحرية وترى فيها أساسا حديثا لإعادة تجديدها في زمن متغير، بعد نصف قرن من الفشل والهزائم، تسبب بها نظام لم يجد ما يواجه به شعبه غير قدر متصاعد من العنف والقتل والتهجير والانتقام، من دون مراعاة المصالح العليا للبلاد والعباد. هذه النقطة المهمة تضعنا امام استنتاجين: - ليست لروسيا في سوريا الأهداف عينها التي لأميركا، بل إن أهداف روسيا معاكسة لأهداف الأخيرة، لأنها لا تستطيع أن توافق على تقويض دولتنا ومجتمعنا، ولا تقدر إلا أن تكون مع استمرارهما وبقائهما، موحدين ومحميين بطبيعة الحال، حرصا على مصالحها الخاصة. ليست روسيا ضالعة في خطط صهيونية مدعومة أميركيا تتصل بتمزيق المشرق العربي وتدمير بنيته القومية والوطنية، وليس في تاريخ علاقاتها معنا ما يشير إلى رغبتها في شيء كهذا أو عملها من أجله. وإذا كانت تقترف اليوم الأخطاء، فإن أخطاءها، التي لا يجوز أن تسامح عنها، تقع على صعيد آخر غير تدمير سوريا دولة ومجتمعا. - لا يجوز أن نتعامل مع روسيا وكأنها عدو يريد تدميرنا. ولا يسوغ تاريخنا معها تعاملا كهذا. ومن غير المقبول اعتبارها مسؤولة عن مأساتنا، بينما نرى في أميركا دولة تريد حمايتنا، حريصة على وجودنا ومستعدة للتدخل عسكريا لحمايتنا. ليس صحيحا ما تعتقده اليوم قطاعات واسعة من مواطنينا حول روسيا واميركا، ليس فقط لأنه عكس الواقع والحقيقة، بل لأن للخطأ فيه عواقب خطيرة على مستقبل الحراك السوري ووجود دولتنا ومجتمعنا. ليست روسيا كأميركا في هذه النقطة الفائقة الأهمية، التي تحدد مواقف الدولتين، فتجعل الثانية عديمة الاكتراث بمصير سوريا، وبالتالي قليلة الاهتمام بإنهاء الصراع الدائر فيها، قبل انهيار بنى دولتها ومجتمعها، بينما لا تفعل روسيا الشيء نفسه، وترتكب أخطاء جدية ليس في المسائل التي تتعلق بوجود دولتنا ومجتمعنا، بل بالصراع الدائر منذ نيف وعام في وطننا، وتعتقد روسيا خطأ أن استمرار السلطة الراهنة يضمن وجودها ونفوذها في بلادنا وفي المشرق، لأن هذه السلطة تحول دون قيام حكومة للإسلام السياسي على مقربة من حدودها الجنوبية، بما يمكن أن تمثله من مخاطر داخلية روسية، بينما الصحيح أن نمط الحكم البعثي الاستبدادي هو الذي يحرك ويحرض الحركات الأصولية من جميع الأنواع، بما في ذلك العلماني والدهري منها، وأن طريقة معالجة الأزمة السورية بالأمن والجيش واقتحام القرى والمدن وقتل المواطنين الأبرياء هي التي نشرت نار العنف والتطرف من أقصى شرق إلى أقصى غرب، ومن أقصى شمال إلى أقصى جنوب سوريا، وأدت إلى بروز انقسام مجتمعي وسياسي يزداد عمقا وتفجرا بمقدار ما يمعن النظام في اعتماد الأمن وسيلة عملية لسياساته، بينما فتح الحل الأمني الباب واسعا أمام التدخل الخارجي في الشأن السوري، هذا إذا ما تجاهلنا التدخل العسكري الإيراني إلى جانب السلطة، وهو اليوم مباشر وكثيف ويمكن أن يعطي طهران مكانة تقريرية في بت مصير الأزمة السورية، بمعنى أنه قد يحول دون إيجاد حل بجهود جهات سورية رسمية ومعارضة، ويمد من عمر الاقتتال الداخلي في بلادنا، ما دامت إيران تدافع عن نفسها في الخندق السوري المتقدم، وتخشى أن يفضي إنهاء الأزمة بحل سياسي إلى فتح دفتر أزماتها، الداخلية منها، وتلك التي ورطتها قياداتها فيها مع عالم خارجي لا شك في أنه يعد نفسه للمعركة ضدها. يتنكر الروس لتاريخ طويل من الصداقة جمعهم بالسوريين ودولتهم قبل الانقلاب العسكري الذي أوصل البعث إلى السلطة بعقد كامل، ويتناسون أن سوريا عقدت أول صفقة سلاح معهم عام 1954، قبل مصر بأشهر عديدة، وأنها اعترفت بجمهورية الصين الشعبية قبل مصر، مع أن الاعتراف بالصين كان يومذاك محرما أميركيا لا يجوز الاقتراب منه تحت أي سبب، وأن المعارضة السورية لا تتطلع إلى إخراج روسيا من بلادها، بل ترى فيها قوة توازن مع الغرب بوسعها مساعدتها على حماية استقلال الدولة السورية الوطني، بعد تغيير النظام، وأنها كذلك مصدر رئيس للعون العسكري والمدني، وستكون جهة تسهم في إعادة بنائها، علما بأن أخطاء روسيا الحالية تأخذها إلى موقع يجعل من الصعب على أصدقائها الدفاع عن ضرورة وأهمية الإبقاء على علاقات مميزة معها. والغريب، أن روسيا تتبنى موقفا يؤيد النظام إلى حد يحول بينها وبين استنكار أو إدانة ما يرتكبه من جرائم ضد شعبه، ويقترفه من أخطاء قاتلة في التعامل مع مأزق غير أمني ولا يعالج أصلا بالأمن، وأنها تنسب إلى الشعب المطالب بحقوقه نوايا ليست لديه، وتنظيمات لا محل لها في صفوفه، وتلصق بالإخوان المسلمين السوريين صفات يعلنون رفضهم لها، ويقدمون الأدلة على أنها ليست من سياساتهم، بدل أن تقيم حوارا معهم تتلمس خلاله حقيقتهم وحقيقة مواقفهم، وما هم على استعداد لقبوله في سوريا الحرة، وفيه كثير مما يمكن أن يبعث الاطمئنان لديها . يقوم الموقف الروسي على الفكرة الجوهرية التالية: لن نتمسك بأسرة الأسد أو حتى بالنظام السوري، إن كانت سوريا القادمة ستقدم لنا ما يقدمه هو لنا، أو أكثر منه، وستقيم حكما مستقرا ومعتدلا يريد الحفاظ على التوازنات والعلاقات الدولية القائمة في المنطقة والبحر المتوسط .إذا لم تكن هناك ضمانات بأن حكما كهذا هو الذي سيلي النظام الحالي، فإننا سنتمسك بالوضع الراهن، وسندافع عنه بكل ما لدينا من قدرات، وهي كثيرة. هكذا، يكون من الأهمية بمكان أن تدخل المعارضة في حوار عميق وذي مصداقية مع روسيا، يطاول مستقبل علاقاتها مع بلادنا، يكفل مواقعها تجاه أميركا ويؤكد أننا لن نصبح أداة بيد تركيا واستراتيجياتها الإقليمية والقومية، وأن دولتنا ستكون عربية التوجه وإن مارست سياسات صداقة وأخوة مع العالم الإسلامي وحافظت على قيم ومنطلقات إسلامية في سلوكها المحلي والدولي. أن الساحة الرئيسة لسياسات سوريا القادمة ستكون بالدرجة الأولى المجال العربي، وإن أفادت من التجربة التركية في ما يتعلق بتنظيم العلاقة بين الدين والنزعات القومية والمدنية والعلمانية والجمهورية، كما في مجال الاقتصاد الحر والانفتاح على العالم... الخ. هذا ما تطلبه روسيا، وهو يسير الدفع، إن كان بديله حرق بلادنا وتدمير دولتها ومجتمعها، بيد النظام والغرب... وصمت روسيا الذي يحدث الانطباع بأنه قبول بما يجري. هل نبادر إلى دفع هذا الثمن، مع أننا ندفعه منذ وقت طويل، وندفعه اليوم أيضا، لكن الجهة التي تفيد منه هي النظام لا الشعب ومشروع الحرية العتيد؟. بسبب مكانتها من بلادنا ونظامها القائم، تستطيع روسيا لعب دور فريد في حل أزمتنا، فهل نساعدها على ذلك أم نقف حجرة عثرة في طريقها، لمجرد أنها تعلن عزمها على مساندة النظام إلى أن يوجد بديل؟ ترى: ألا يملي علينا واجبنا الوطني أن نكون هذا البديل؟ كاتب ومعارض سوري