اعتبر باحثون وجامعيون، أن على الباحث والدارس للتصوف أن لا يبقى حبيس الكتب والنصوص الصوفية من أجل تكوين فكرة عن التصوف، خاصة في ظل التحديات التي يعرفها التصوف اليوم، ومن أخطرها ما أسموه “اختطاف التصوف”. جاء ذلك في حلقتين علميتين نظمهما “ماستر العقيدة والتصوف في الغرب الإسلامي” التابع لكلية الآداب بالرباط، بتنسيق مع “مؤسسة الجمال والقيم الإنسانية”، برحاب الزاوية البودشيشية “بمداغ”، أول أمس، شارك فيهما مجموعة من الاساتذة والباحثين، وذلك في إطار الأنشطة العلمية والثقافية الموازية التي ينظمها “الماستر”. كيفية استيعاب التجربة الصوفية وفي هذا الصدد أشار الباحث خالد ميار الادريسي، إلى مسألة الممارسة الصوفية، وكيف يمكن فهمها من منظور الباحث، لأن حسبه العائق الذي يواجه الباحث والدارس للتصوف هو كيفية استيعاب التجربة الصوفية، متسائلا، هل سينخرط الباحث فيها أم سيحافظ على المسافة العلمية؟، وهذه الثنائية “الذاتية/الموضوعية” هي معضلة العلوم الإنسانية. ووقف ميار الإدريسي عند بعض التيارات العلمية المعاصرة وكيف قاربت إشكالية الذاتية /الموضوعية في العلوم الانسانية، مثل اتجاه ما بعد الحداثة، ما بعد الوضعية، ثم اتجاه الواقعية النقدية، مرجعاً الاختلافات بينها إلى أن اختياراتها المنهجية والموضوعية تحكمها شبكات ولوبيّات الجماعات العلمية، لينتقل بعدها إلى الحديث عن التصوف الذي اعتبره حقلاً جد معقد، وأنه ليس مدارسة فقط، مبيناً أن من يشتغل على التصوف من الدارسين والباحثين، إنما يشتغل على حصيلة الصوفي الذي كابد وعانى تجربة صوفية معينة، فلذلك عندما يطلق مفهوم العلم على حقل التصوف حسب الأستاذ فإنما يطلق على مجال الإنتاج، أما الممارسة فليست مقيدة بقواعد منهجية موضوعية معينة، ويمثل لهذه الحالة بأن الباحث ليس فقط بقراءة ومدارسة كتب الصوفية سيصبح مثل الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي، فتلك مجرد توهمات فكرية لمن لامس تلك المعاني. أسس البحث في التصوف من جهته، تطرّق خالد زهري في مداخلته التي جاءت في حلقة علمية تحت عنوان “التصوف وإشكالية الموضوعية العلمية”، إلى أسس البحث العلمي في العلوم الإسلامية عموما والبحث في التصوف على وجه الخصوص، وذلك من خلال ثلاث محاور رئيسة، وهي طرق البحث ومقومات البحث ومقاصد البحث، مؤكدا من خلال هذه المحاور الثلاثة على تكامل النظرة الأبستمولوجية لطرق البحث العلمي، بحيث ينطر إليها على مستوى معرفي يمكننا الاطلاع على مجموعة من المصادر والمظان أن نستخرج منها نظرية معرفية. وحدد الجامعي طرق البحث في أربعة وهي الحفظ، الفهم، المباحثة، والمطارحة، مشيرا إلى أن هذه الطرق تعتبر خيطا رابطا يجمع بين كل العلوم الإسلامية وأن الإخلال بواحد منها يؤدي إلى أزمة في الفهم وأزمة في التحصيل. وانتقل خالد زهري في المحور الثاني الموسوم بمقومات البحث، والتي نظمها في ثلاث مقومات رئيسية؛ أولها مقوم المحبة ومقوم الفتح ومقوم التجربة، مبينا من خلال ذلك أن التصوف يحمل خصوصية ارتباطه وتفاعله مع هذه المقومات، وبالخصوص مقوم التجربة الذي يضبط ويوجه البحث في مسائل التصوف. ومن خلال المحور الثالث والمتعلق بمقاصد البحث، أكد المتحدث على ضرورة مراعاة واستحضار المقاصد المتعلقة بعلم التصوف في التعامل مع باقي التوجهات والطوائف الأخرى، مختتما مداخلته بمجموعة من الاستنتاجات والخلاصات، من بينها أنه لا يمكن أن تتحقق نهضة علمية إلا عن طريق الالتزام بهده الطرق والمقومات والمقاصد المعرفية للبحث في التصوف، داعيا إلى استثمار دور الزوايا التربوي والعلمي من أجل تحقيق نهضة علمية في الوقت الحاضر، ممثلا لذلك بمجموعة من علماء الصوفية الذين انخرطوا في مجموعة من الزوايا وكانت لهم إسهامات كثيرة سواء على المستوى التربوي أو المستوى الاجتماعي او على المستوى العلمي والمعرفي. علاقة علم المقاصد بعلم التصوف علي راضي، خصص مداخلته لعلاقة علم المقاصد بعلم التصوف من خلال نموذج الإمام الشاطبي، وذلك عند تقسيمه المقاصد إلى قسمين: مقاصد الشارع ومقاصد المكلف، وحصول الموافقة بين القصدين يكمن عند فناء إرادة العبد ليبقى تحت إرادة الله، وتحرر العبد من كل التعلقات ليبقى تعلقه بالله تعالى، وليتحقق بذلك بالحديث القدسي كنت سمعه وبصره .. (الحديث)، كما اعتبر الباحث، أن حلقة التحقق بمراد الله وهو القصد الأصلي عند الشاطبي تتحصل بالقدوة الحي، وهو الشيخ المربي صاحب الإرشاد الروحي، ودليل ذلك عند الشاطبي: إلحاح الشارع على وجوب بيان العالم الرباني علما وعملا، وحفظ الله لأوليائه قولا وفعلا، لأنهم قبلة الاقتداء من حيث كونهم مترجمون لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. التصوف يجمع بين العلم والتجربة أما الأستاذة كريمة بوعمري أستاذة التعليم العالي بكلية الآداب الرباط، فقد تحدثت في مداخلتها في حلقة علمية أخرى التي جاءت تحت موضوع “مناهج التربية الصوفية “، عن مكانة التصوف بين العلوم الإسلامية، وأنه يجمع بين العلم والتجربة، فالصوفية عاشوا تجاربهم الروحية ودوّنوها. واعتبرت المتحدثة، أن منهج التربية مرتبط بالشيخ، فلكل شيخ طريقته الخاصة التي يربي بها المريدين، وهذه الطريقة تناسب العصر من جهة، وتناسب المريد من جهة ثانية، فالصوفي ابن وقته، أي أن الشيخ المربي يتفاعل مع وقته وتطورات عصره، وتمثل لذلك أنه لا يمكن أن نربي مريد العصر الحالي بمنهج تربية شيخ الطائفة أبي القاسم الجنيد في القرن الثالث الهجري، مؤكدة أن التربية الروحية مرتبطة بأمرين اثنين، الصحبة أولاً، وهذه الصحبة هي التي تبين كيفية السير إلى الله عند المريد، ثم الذكر ثانياً، والصحبة والذكر متلازمين، فلا صحبة بدون ذكر ولا ذكر بدون صحبة. التربية هي التخلق مع الحق والخلق وفي نفس السياق دائماً، ركزت كل من سعاد كعب أستاذة التعليم العالي بكلية الآداب الرباط، والباحثة سميرة لطفي في كلمتيهما، على أن التربية الروحية تركز على صدق النية في معرفة الله تعالى، والتسليم في بعض الأمور الغيبية الخارجة عن نطاق العقل، وأن نموذج التربية الصوفية مبني في أساسه على نموذج الأخلاق الحسنة، فالتصوف خلق ومن زاد عليم في التصوف زاد عليك في الخلق، والتربية عند أهل الطريقة هي التخلق مع الحق والخلق. يشار إلى أن فعاليات هذا النشاط العلمي أختتمت بأمسية روحية للسماع الصوفي بمشاركة المجموعة الرسمية للمديح والسماع الصوفي برحاب الزاوية البودشيشية بمداغ.