إغناءا للنقاش الذي فتحه الكاتب أحمد عصيد من خلال الأفكار التي بسطها في مقالته المشار إلى عنوانها أعلاه، بخصوص مسألة حرية اللباس وعلاقته بالكرامة، فإنني أقدم هذه المساهمة أرصد فيها أهم ما جاء في مقالة الكاتب ومناقشتها. فقد حاول من خلال مقالته طرح رؤيته الفلسفية "العلمانية" لقضية حرية اللباس، محاولا الدفاع عن هذا التصور "النموذجي"، ومعتبرا أن: "جوهر العلمانية هو احترام الآخر وقبوله كما هو" مضيفا: "تعارض العلمانية تماما مع كل الإيديولوجيات الشمولية التي تسعى بوسائل السلطة والغلبة إلى فرض نهج معين على الجميع"، وإمعانا في التبشير بالعلمانية و"تفردها" بالاعتراف بحرية اللباس، أسهب الكاتب في إثبات "إيمانه العميق" كعلماني بهذه الحرية، سواء تعلق الأمر بمحجبة أو بغير المحجبة، ليؤكد على أنه ليس ك: " الإسلاميين والتيارات الدينية (الذين ) يتعاملون معها (حرية اللباس) بوجهين، ويكيلون بمكيالين"، أردف " لا شك أن ما تقوم به بعض المدارس الخاصة وما يتمّ داخل بعض المدارس العمومية، مخلّ بمبادئ حقوق الإنسان وبالحريات الفردية التي لا يحق لأحد التدخل فيها، والتي منها اختيار الملبس والمأكل والمشرب ونمط الحياة". بعد ذلك، ينتقل بنا الكاتب إلى "اصطياد" بعض الممارسات المشينة التي تقع داخل: " بعض المدارس في الحي الحسني بالدار البيضاء مثلا، حيث يهيمن التيار الإسلامي التابع لحزب العدالة والتنمية، أو في بعض أحياء مراكش حيث ينتشر السلفيون، وفي عدد من المدارس العمومية بالأحياء الشعبية، حيث يعمد بعض المدرسين والمدرسات، إلى منع بعض التلميذات من ولوج القسم بدون غطاء الرأس، كما يعمل آخرون على تخصيص "جوائز" للواتي يضعن "الفولار" والتعامل مع الأخريات بنوع من التمييز والغلظة من أجل دفعهن إلى الإلتزام بوضع غطاء الرأس قسرا"، وذلك ليجدد التأكيد مرة أخرى على رفضه المساس بحرية اللباس كيفما كانت الضحية محجبة أم غيرها. لكنه عند حديثه عن هذه التجاوزات التي تقع في بعض المدارس، يستفيض في كيل الاتهامات للتيار الإسلامي ككل، ويضعه في سلة واحدة، كما لو أنه كتلة واحدة متجانسة، ليقرر بأن ذلك " مسّ صارخ بالحريات ينمّ عن مقدار ضعف الخطاب الديني في الإقناع بما يتعارض مع الكرامة الإنسانية. ويدلّ هذا على أن الإسلاميين يعمدون إلى الطرق الشفوية والزجر والترغيب عندما يكونون خارج السلطة، وكذا في حالة تواجدهم في حكومة ائتلاف تجمعهم مع غيرهم، حيث يفضلون الأساليب الملتوية، بينما يعمدون إلى الفرض المباشر باعتماد عنف الدولة والأساليب السلطوية المؤسساتية عندما يستفردون بالسلطة لوحدهم...". ومن خلال قراءة هذا الخطاب، يتضح مدى ابتعاده عن الموضوعية، وسقوطه في التحامل الإيديولوجي، فالكاتب نقض كلامه بين فقرة وأخرى، حيث يؤكد في فقرة سابقة أن "مفهوم الحرية لا يمكن أن يبرز من خلال نماذج جزئية أو حالات خاصّة، بل عبر المفهوم العام الذي يعلو فوق هذه الحالات النسبية"، وهو باجتزائه للحالات التي ذكرها وإخراجها من سياقها، وبناءه عليها حكما عاما، يكون قد ابتعد عن النسبية والموضوعية وأصبغ تحليله بلون إيديولوجي. والكاتب فيما ذهب إليه لا يميز بين الخطاب الديني كخطاب عام وثابت، وبين القراءات والتأويلات المتعددة لهذا الخطاب، والتي تتميز بالنسبية والمحدودية في الزمان والمكان، وبالتالي فإذا رجعنا إلى الخطاب الديني الإسلامي تحديدا، لاستيضاح الأمر، فإننا نجده يقرر حكما شرعيا فيما يتعلق بموضوع اللباس، بحيث نجد نصوصا صريحة فيما يتعلق بلباس المرأة المسلمة، حيث وضعت له ضابطا وحيدا وهو أن يكون ساترا للجسد، وعندما ننتقل من الخطاب الديني العام إلى التطبيقات العملية، هنا نجد الاختلاف بين الفقهاء والعلماء في الاجتهادات بين من يقول بالتغطية الكاملة للجسد، وبين من يستثني الوجه والكفين، لكن الكل يُجمع على فرضية الحجاب الساتر لجسد المرأة، وسأتناول فيما بعد الجانب الفلسفي للزي الإسلامي للمرأة في علاقة بحرية اللباس. ليصل الكاتب في الأخير إلى استنتاج صحيح وهو" أننا أمام مشروعين مجتمعيين لا يمكن أن يلتقيا، لأنهما لا يقومان على مفهوم مشترك للحرية والكرامة...". والحقيقة، أن حرية اللباس هي قضية مرتبطة بالأساس بتصورين فكريين مختلفين، تصور علماني يعتبر جسد المرأة هو ملك لها، وبالتالي يمكنها أن تصنع به ما تشاء، ولا يحق للمجتمع التدخل في طريقة لباسها، لأن ذلك يدخل في حريتها الشخصية، بغض النظر عن مدى التأثير السلبي لذلك اللباس على المجتمع. وهذا التصور العلماني لحرية اللباس لدى المرأة، يرتكز بالأساس على معنى "إباحي" لمفهوم الحرية، يختزل المرأة في جسدها، ويروّج لفكرة أن الحرية رديفة لتمرد وجرأة المرأة على الضوابط الأخلاقية للمجتمع. أما التصور الإسلامي، فإنه يقوم على أساس أن الجسد ليس ملكا للإنسان، إنما هو ملك لخالقه جلّ في علاه: (يَا أَََيُّهَا الإنْسَان مَا غرََّكَ بِرَبِّكَ الكَريمِ الَّذي خَلَقَكَ فَسَوَّاَكَ فَعَدََّلَكَ فِي أيّ صورة مَا شَاء ركّبَك)، وبناء عليه، فإن مسألة حرية اللباس في الإسلام لها ضوابط شرعية، الهدف منها حماية المرأة المسلمة أولا، ثم المجتمع ثانيا، وذلك على اعتبار أن انكشاف المرأة بجسدها أمام الناس، يعرضها للأذى والمضايقات، ابتداء بالتحرش وانتهاء بالاغتصاب، وهذا ما نشاهده يوميا في الفضاءات العامة، وقد يقول قائل: حتى المحجبات يتعرضن للتحرش، لكننا يجب أن نميّز بين المحجبة التي ترتدي لباسا ساترا لا يصف جسدها، وبين تلك التي تضع غطاء الرأس من فوق وترتدي من تحت لباسا مبرزا لجسدها، فهي إذن لا تختلف عن الأخريات من حيث الإثارة والإغراء. أما عن حماية المجتمع، فيتجلى ذلك في كون لباس المرأة المحتشم يحول دون انتشار كثير من الانحرافات السلوكية، لأن خروجها كاشفة عن جسدها، يجعلها محط إثارة بل واستفزاز لغرائز الرجال، وبالتالي فهي من حيث تدري أو لا تدري تكون مسؤولة عن كثيرا ما يترتب عن ذلك من ردود فعل سلبية من طرف الجنس الآخر، وإذا عدنا قليلا إلى الماضي القريب، سنجد أن المجتمع المغربي لم يعرف الانتشار الواسع للانحرافات التي نراها اليوم، بسبب أن النساء كن يرتدين لباسا يحفظ كرامتهن، ولا يترك المجال لكل من هب ودب أن يتعرض لهن. وهنا تأتي أهمية ربط الحرية بالكرامة كما جاء في مقالة الكاتب: "هذا الربط بين الحرية والكرامة هو الذي يشرح الحدود بين ما هو حرية وما ليس كذلك، فإلزام الإنسان بالوقوف في الضوء الأحمر لا يجعله يشعر بالإهانة أو بالقهر والتسلط "، وهنا نتساءل لماذا قيد هنا الحرية؟ الجواب واضح، هناك مصلحة مجتمعية تتعلق بحرية وحقوق مواطنين آخرين، كذلك بالنسبة عندما تقوم فتاة بارتداء الحجاب إيمانا منها واقتناعا بفرضيته، فإنها لا تشعر لا بالإهانة ولا بالإكراه، لأنها تقوم بذلك وهي تعلم أنها تقوم بواجب ديني، يمليه عليها إيمانها، وحتى تعيش في انسجام مع ذاتها ومعتقدها، ترتدي الحجاب، وبالتالي فهي تنأى بنفسها عن المضايقات والتحرشات التي قد تتعرض لها الفتاة في المجتمع. عندما تخرج الفتاة إلى الشارع أو تذهب إلى المدرسة أو الوظيفة وهي في كامل تبرجها، من الطبيعي أن تتعرض إلى التحرش والمضايقات، هذا يقع في جميع الدول، ونحن لسنا بصدد تبرير هذه الانحرافات المشينة، وإنما نريد التنبيه إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أن حفظ كرامة المرأة لا يمكن بأي حال من الأحوال أي يكون بإطلاق حريتها في اللباس، وإنما باحترامها حرية الآخرين الذين يتقاسمون معها الفضاءات العامة، التي يجب أن تخضع لقواعد تنظم حركة السلوك البشري في المجتمع حتى لا تقع حوادث سير غير مرغوب فيها. والأمثلة التي ساقها الكاتب في معرض استدلاله على الأطروحة التي يدافع عنها، لا يمكن أن يُبنى عليها حكم عام، لعدة اعتبارات: أولها أن واقعة الاعتداء على فتاة وتمزيق ثيابها من طرف سلفيين حسب قوله، لو صحت الرواية هي حادثة معزولة ولا تمثل ظاهرة مضطردة في المجتمع، نصدر من خلالها حكما عاما على تيار معين، ثانيا: أن الحادث على فرض صحته لا نملك تفاصيل كافية عن سياقه وحيثياته، ثالثا: فإن هؤلاء الذين نُسب إليهم الحادث لا يمثلون إلا أنفسهم، لأن الشذوذ في الفكر والسلوك موجود في كل التيارات، نفس الحكم ينطبق على المثال الذي ساقه عن قيام بعض المدرسين بمنع التلميذات من ولوج الأقسام بدون حجاب أو التمييز في المعاملة بين المحجبات وغير المحجبات. ويختم الكاتب مقالته بالتساؤل التالي: "هل سنحزم أمرنا فنقوم بإصلاح منظومتنا التربوية من أجل تربية النشئ على الحرية واحترام الإختلاف، أم أننا سنسمح لإيديولوجيات أجنبية بتقويض مشروعنا الديمقراطي ووضع المغرب على أبواب المجهول". ونحن بدورنا نسائله عن طبيعة هذا "الإصلاح التربوي " الذي يدعو له الكاتب؟ هل هو إصلاح يهدف إلى وضع قواعد أخلاقية تضبط العلاقة بين التلاميذ فيما بينهم من جهة، حتى يسود بينهم الاحترام المتبادل، وبين التلاميذ والمدرسين من جهة ثانية؟ أم هي دعوة للتحرر من كل القيود والضوابط الأخلاقية؟ كما نتساءل عن قصده من "الإيديولوجيات الأجنبية"، التي ستقوض مشروعه الديمقراطي هل العقيدة الإسلامية تدخل ضمنها؟ وماذا عن العلمانية ؟؟!!