وجه نادي الفكر الإسلامي بالرباط رسالة إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك حول قرار منع ارتداء الحجاب بالمدارس والمؤسسات العمومية بفرنسا. وأعرب النادي أصالة عن نفسه ونيابة عن قطاع عريض من المسلمين عن أساه العميق، وقدم شروحات وافية حول موضوع الحجاب ودلالته ووضعه في الشريعة الإسلامية، لينتهي إلى الإعراب عن الأمل في أن يتراجع المسؤولون الفرنسيون عن قرارهم بمنع الحجاب. وفيما يلي نص الرسالة: سيدي الرئيس: باسم حقوق الإنسان، وباسم حق التعبير الذي يعترف به العالم المتحضر للمجتمع المدني، وبالنيابة عن فئات واسعة من المجتمع الإسلامي، يعبر لكم نادي الفكر الإسلامي بالرباط، عن استيائه من الضغط النفسي الذي تخضع له المحجبات في فرنسا ومن سياسة الإدماج القسري للفرنسيين المسلمين. لقد تلقينا بأسى عميق نتائج تقرير لجنة ستازي (STASI)، كما أن تصريحاتكم الأخيرة جعلتنا محتارين حول مآل تحكيمكم في قضية الحجاب بفرنسا، وفي سبب تراجعكم عن مواقفكم السابقة، ونحن على قناعة بأن تركيبة هذه اللجنة لا تعبر إطلاقا عن التنوع الثقافي الذي يطبع حاليا المجتمع الفرنسي، لهذا نرجوكم إضافة العناصر التالية لهذا الملف. لقد كان من المفروض بالنسبة لمسؤولي آخر الإمبراطوريات الاستعمارية، وأشدها احتكاكا وخبرة وفهما لحقيقة وطبيعة الإسلام والمجتمع الإسلامي، فضلا عن كبار مؤرخيها وفلاسفتها وعلمائها الاجتماعيين، أن لا يقعوا في خطإ القول بأن حجاب المرأة المسلمة هو رمز ديني لا يقبل في دولة علمانية كفرنسا ؟، مع العلم بأن هذا التصور يتعارض مع الحقائق الاجتماعية والتاريخية التالية : 1 كان العرب قبل ظهور الإسلام من أشد شعوب العالم (غيرة) على عرض المرأة وعفتها، لدرجة أنها كانت تدفع الكثير منهم، إذا بشر بميلاد أنثى عنده، أن يعمد إلى وأدها ودفنها حتى لا تتسبب له بعد كبرها في علاقة جنسية تلطخ سمعة عشيرته بالعار، فجاء القرءان الكريم ليندد بهذه الجريمة التقليدية تنديدا شديدا في قوله تعالى : {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون} (سورة النحل الآية 59-58). بعد ظهور الإسلام (01ه 622م)، جاءت (أحكام القرءان الاجتماعية) الخاصة بالدفاع عن (حقوق المرأة) مبتدئة بحمايتها من عدوان الرجل وتحرشه الجنسي، في خطاب خاص ب المؤمنين : {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم، ذلك أزكى لهم} (سورة النور 30) ثم في خطاب خاص بالمؤمنات : {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها، وليضربن بخمرهن على جيوبهن} (سورة النور 31). وهذا الأمر بالحجاب أجمع عليه المسلمون وكل مذاهبهم الإسلامية، فكان بذلك أول (قانون أخلاقي) عرفته الحضارة العربية الإسلامية. وأشار القرءان الكريم إلى أن الهدف منه هو منع التحرش الجنسي : {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين} (سورة الأحزاب 59) (أي أن يعرفن بأنهن مؤمنات ملتزمات فيفرضن احترامهن على الرجال. نحن إذن أمام (قانون اجتماعي) خاص بنوع لباس (المرأة المؤمنة) أي الملتزمة بأحكام السلوك الأخلاقي الإسلامي القائم على العفة والحياء واحترام كرامة الآخر، كوسيلة تربوية للرفع من علاقة الرجل بالمرأة إلى مستوى إنساني أرقى. وهكذا يتبين أن الحجاب ليس رمزا دينيا هدفه الانتماء إلى دين معين، دون غيره، بل له وظيفة ثابتة لا تتغير : الرفع من القيمة الروحية للمرأة التي هي أسمى من هيأتها أو جسدها، فهو إذن وليد تحول فكري، وتوجه أخلاقي حضاري للمرأة ابتداء من سن رشدها. 2 الإسلام هو دين الواقعية الاجتماعية التي تعترف بحق وحرية التعددية الفكرية : الدينية والحضارية والسياسية، لكن المميز لهذه الواقعية أنها محكومة ب المسؤولية الفردية والجماعية عن كل أعمالها أمام الله، وذلك بقطع النظر عن مسؤولية هؤلاء أمام أي سلطة أو قانون بشري، وهذا ما يشير إليه الخطاب القرآني للبشرية، الذي اشتمل على ثلاثة صيغ : - خطاب موجه لعامة الناس في كل زمان ومكان، بصيغة يا أيها الناس. - وخطاب موجه لعامة المسلمين في كل زمان ومكان بصيغة يا أيها المسلمون. - وخطاب خاص بالمؤمنين وهم (الملتزمون بأحكام الإسلام) بصيغة يا أيها المؤمنون. وذلك بقصد ترك الحرية لكل فئة أن تختار طريقها، ودرجة التزامها، لكن تحت مسؤوليتها الشخصية الخاصة. ويلاحظ أن الأمر بغض البصر للرجال، وبالحجاب للنساء، وجه خاصة ل المؤمنين والمؤمنات أي للملتزمين والملتزمات بأحكام الإسلام التزاما كاملا، وليس للمسلمين والمسلمات الذين لا يمكن الطعن في إسلامهم لعدم التزامهم بهذه الأحكام، واختيار نسائهم أو بناتهم للسفور مثلا. ولكنهم يتحملون مسؤولية أعمالهم هذه أمام الله. هل يعتبر الإسلام دين الواقعية الاجتماعية أكثر تحررا ودفاعا عن حقوق المرأة مسلمة كانت أو غير مسلمة من علمانية وعدالة الجمهورية الفرنسية؟!. 3 هناك خلط في فكر فئة من الرأي العام المتحزب بفرنسا، بين (الأصولية) و(التطرف الديني) فالأصولية حركة أخلاقية ظهرت في كل الشرائع السماوية، والحجاب إنما هو تعبير عن (التزام أخلاقي)، ولا يمكن خلطه مع (التطرف الديني) الذي يأخذ غالبا طابعا سياسيا، ولا يمس إلا فئة قليلة من الناس. ومن حسن الحظ، أن (مهزلة شيخ الأزهر) التي تمت بحضور (وزير الداخلية الفرنسي) ، جاءت لتكشف وتؤكد (رد فعل) العالم العربي والإسلامي ضد موقف (الشيخ) ورأيه الشخصي من حجاب (المؤمنات الفرنسيات) لأنه تصرف (كموظف) يخضع لسياسة حكومته، بعد أن كان يتم انتخابه من (مؤسسة علماء الأزهر)، وهذا ما جعلهم ينددون بفتواه في نفس الجلسة الإعلامية؟!. 4 إن قرار منع الحجاب يتعارض ويتناقض مع مبادئ (العلمانية) التي تؤمن ب حق الاختلاف، وحق الاختلاف يقتضي الإقرار باتجاهين : (حق الإنسان) في أن يكون مختلفا عن الآخر، و(واجب الإنسان) في الاعتراف باختلاف الآخر عنه، ومن واجب المجتمع الذي يؤمن ب التعددية الثقافية الاعتراف الحقيقي والكامل بالمساواة. لكن التناقض الأكبر يكمن في أن العلمانية الفرنسية التي تتبنى الدفاع عن (حقوق المرأة وكرامتها) أصبحت تتعامل معها، ليس فقط، كبضاعة تجارية تستغل جسمها وكل أطراف جسدها يوميا، في وسائل الإعلام والفنون والملاهي، بل وتعترف وتقبل كل أنواع الشذوذ الجنسي، وحتى الزواج المثلي (أحط ما عرفته البشرية في ردتها الحيوانية)، في الوقت الذي ترفض فيه حق الرجل والمرأة في أن يحتفظا بطهارتهما وكرامتهما الإنسانية. 5 نحن واعون بالصعوبات التي تواجهها فرنسا في إدماج الجاليات المغاربية، وكل محاولات الإدماج القسري مآلها الفشل حسب تصورنا، وبالمقابل يمكن لعملية الإدماج أن تأخذ اتجاهين في نظرنا : الرفع من المستوى التربوي العام لهذه الفئة، بمحاربة أسباب فشلها الدراسي، والحرص على خفض نسبة البطالة فيها، لكن كيف يتم الرفع من المستوى التعليمي للشابات المسلمات، ومنع الحجاب يأتي ليفرض عليهن الاختيار بين أمرين : إما التمدرس أو الالتزام الديني ؟!. هل يريد (قانون الحجاب) أن تصبح المحتجبة في الشارع الفرنسي عنصرا خارجا عن القانون، وعرضة (للتطرف العنصري) الذي ينموا تقليديا في أوساط سياسية معينة، والذي يمكن أن يأخذ طابعا شعبيا؟، كما أنه سيدفع الفئات المسلمة إلى الانعزالية عن طريق خلق مدارس خاصة بهم مثلا : وهو ما يتعارض مع أمل هذه الفئات في الاندماج الاجتماعي؟!. سيدي الرئيس : إن الأضرار المادية والمعنوية، وانعكاساتها السياسية التي ستنجم عن قراركم هذا كبيرة ومتنوعة، بينما أعلنت دول عظمى أنها لن ترتكب مثل هذا الخطأ، في حق ملايين التلميذات والطالبات العربيات والمسلمات الراغبات في مواصلة تعليمهن، وفي اندماجهن في الحياة العامة. إن المجتمع الإسلامي في العالم، إيمانا منه بحكمتكم، وسعة فكركم، يحتفظ بالأمل في أن تتراجعوا عن قرار منع الحجاب. وتقبلوا سيدي رئيس الجمهورية الفرنسية خالص احترامنا وتقديرنا. الرباط في : 18/11/1424ه 11/01/2004م عن نادي الفكر الإسلامي الكاتب العام :إدريس الكتاني أحد مؤسسي (رابطة علماء المغرب) وعضو مجلسها الأعلى سنة 1961 أستاذ العلوم الاجتماعية والحضارة الإسلامية بجامعة محمد الخامس بالرباط سابقا