يثار النقاش مرة أخرى في الجرائد و فضائيات الدعوية، وعلى لسان الرجال(!) قضية أطلق عليها فقهاء الفضائيات: حرية المسلمات في ارتداء النقاب. فهل الأمر حرية حقيقية، أي نابع من قناعة و اعتقاد أم تحكم و جبر ؟ و ما مغزى الإنابة التي يمارسها الرجال المسلمون و إن تعلق الأمر بحرية المرأة كما يدعون ؟! في البداية يجب أن نقر بأن ارتداء الحجاب أو النقاب ،على حد سواء، لم يعد مسألة حرية وقناعة فردية ،كما يدعي فقهاء الفضائيات و الرأي العام الموجه لاشعوريا بتأويلات واجتهادات رجال الدين و الأدب الذكوري. فلباس المرأة مازال في المجتمعات الإسلامية أمر تقرر فيه و تحدده الوصاية الذكورية على جسد المرأة مستعينة(الوصاية) بنصوص وتأويلات تعضد مزاج الرجل ليغدو موقفا و حكما إلهيا. لقد غدا لباس المرأة،في المجتمعات الإسلامية، تعبيرا عن تدخل واضح في إرادة المرأة وحريتها ، تدخل تتوهمه المرأة المنقبة و المحجبة قناعة شخصية بفعل التربية والترويض و التعود. هكذا تتحول وجهات النظر إلى يقينيات وحقائق بفعل التكرار و إجماع أفراد المجتمع المختلفة ثقافاتهم ومصادر قناعاتهم والتي تشترك في كونها فكرٌ قبلي يجهز على كل ما هو فرداني و مختلف. وسنظهر في ما يأتي أن لباس المرأة المسلمة بعيد على أن يكون تعبيرا عن حرية فردية. من المعروف أن اللباس، في كل المجتمعات، إما تقرره جهات يمكن ملاحظتها وكشفها(شركات الموضة التي تبحث عن الربح من خلال تنميط الذوق أو فرض الإدارات لنمط من اللباس على الموظفين و المستخدمين و الجنود) أو يعزى إلى دوافع لاشعورية، تعرضت للنسيان، تشكل طرق اللباس و تميز الذكور عن الإناث والمتزوجات عن الفتيات ولباس الأيام العادية عن أزياء الأعياد. لكن هناك فرق بين مجتمعات تمنح لأفرادها حرية التعبير عن الذات من خلال اللباس وهي بذلك تشجع الابتكار و تساهم في اغتناء التراث الجمالي و تساعد الأفراد على الانخراط الفعال و المنتج في ثقافة المجتمع، و مجتمعات تكبح كل إبداع و تقمع حرية التعبير من خلال تنميط الأشخاص و العقول ، و الدليل على تحكم المجتمع الإسلامي سعيه لتنميط جسد المرأة من حيث اللباس حيث يتدخل الكل ، من سكان الحي و الجيران و "ولاد الحومة"، بالتقريع و التجريح والعنف اللفظي و الجسدي في حق كل من سولت لها نفسها أن تخالف الذوق المتفق عليه( من دون أن تجد المرأة من يدافع على حريتها المزعومة و لو بتأنيب المعتدي ). أما "المحجبة" التي امتثلت لقيم المجتمع فتلاقي الترحيب و التهنئة على الهداية !( بل تضطر الفتيات اللواتي ينشرن عروضا للزواج على صفحات الجرائد إلى التأكيد على أنهن متدينات و محجبات و هذا مؤشر على الشروط الواجب توفرها في الفتيات اللواتي يرغبن في الدخول إلى المجتمع عبر أهم أبوابه ومؤسساته:الأسرة). تعاني ،إذن، الفتاة التي اختارت الكشف عن شعرها و أجزاء أخرى من جسدها في الحي والشارع و عبر الفضائيات الدعوية من قيم القبيلة التي تنصب نفسها وصية على جسد المرأة في حين تعامل الفتاة المحجبة بشيء من الوقار، فعن أي حرية يتحدث فقهاء الفضائيات ؟ إذا كانت الفتاة المتبرجة تعامل معاملة مهينة وتقذف بأقذع النعوت من طرف أشخاص موجهين بالأفكار و القيم التقليدية الذكورية فعن أي قناعة يتكلم رجال الدين ؟ إن الفتيات اللواتي عانين أو عاين الإهانة و الاستهجان يستسلمن لقوة المجتمع الجبار ويرتدين ما أراده الرجال خاضعات لا مقتنعات . حين منع النقاب و قبله الحجاب في الفضاءات العمومية في البلدان العلمانية ارتفعت حناجر أصحاب الدعوة و فقهاء الفضائيات ولم تخفت ،غير منتبهين أنهم ،بفعلهم هذا،يتدخلون في شؤون داخلية لدول مستقلة تنظم ،بما تراه ملائما، شؤون مواطنيها و علاقاتهم . لا يعرف المهرولون إلى الفتوى المؤدى عنها أن مؤسسات الجمهورية الفرنسية مقدسة ! أما ادعاء حرية المرأة المسلمة، المرتدية للنقاب، فكذب و هراء. كيف يدعون أن ارتداء النقاب حرية و قد بينا أن كل فرد في المجتمع الأصلي للمرأة المنقبة له الحق في إبداء الرأي و التدخل في زي المرأة؟ إن حرية المرأة المسلمة المنقبة ليست حقيقة. لذا وجب التوقف عن التشدق بهذا الادعاء ووجب معه الخضوع لقوانين و مؤسسات الدول المضيفة. وإلا فليسمح المسلمون لغير المسلمات بزيارة المساجد من دون غطاء الرأس مادام دينهن لا يفرض عليهن حجب شعرهن ! يبدو أن بعض المسلمين يرغبون عن فهم الفرنسيين، فالمسألة مسألة مساواة. يتساءل الفرنسيون : كيف يسمح للرجال بارتداء ما يشاءون و يفرض على المرأة ارتداء لباس بمواصفات محددة ؟ إن الجمهورية العلمانية تنصب نفسها، وهي ليست طرفا دينيا، محاميا و حاميا لنساء يجهلن بأنهن ليست حرائر كما يعتقدن حين يلبين رغبة مجتمعاتهن. يمكن أن نستشهد، في هذا الإطار، بقضية العذرية التي عرفتها فرنسا منذ أشهر. فهذه مسألة اجتماعية يتم إلباسها لبوسا دينيا وهذا دليل آخر على ممارسة الوصاية القبلية على جسد المرأة. ففحص الفتيات قبل الزواج مسألة رفضها القضاء الفرنسي وقبله الحركة النسائية لأن في الأمر إهانة ووصاية يمارسها المجتمع على أخر معاقل الحرية الفردية(الجسد). و أتذكر ما قالته مواطنة أردنية حين أثيرت نفس القضية في محاكم بلادها: كيف السبيل إلى التأكد من عفة الرجال ؟ وهي تتساءل بدهاء عن المساواة بين الرجل و المرأة. حين تمنع فرنسا النقاب من الفضاء العام و الحجاب من مؤسسات الجمهورية فإنها لا تفرض على أحد التخلي على معتقده و لا تفرض ديانة ما لأن الضمير الداخلي أساس العقيدة و هذا لب الدين و جوهره أفلا تعقلون يا فقهاء الفضائيات ! وإذا تخلى الفقهاء عن ادعاء أن لباس المرأة تعبير عن حرية ذاتية وقالوا أنه أمر الهي و ليس لمخلوق منع تطبيق أوامر الله ذهبنا إلى المقاربة الفقهية. و نؤكد أن ما نقوله هنا فرضيات وأطروحات لا ترقى إلى مستوى اليقين. ملاحظة أولى و تساؤل نوردهما قبل الخوض في لب الموضوع. لقد تم تأويل و تفسير النصوص القرآنية التي تتحدث عن "حجاب" و "نقاب" المرأة من دون تساؤل عن السياق الاجتماعي و الثقافي الذي كان وراء نزول الايتين31 و59 من النور و الأحزاب. ينسى فقهاء الفضائيات أن اللباس و طريقة قص الشعر و الوشم كانت بمثابة بطاقة الهوية و سجل الحالة المدنية في زمن لم تكن فيه الوثائق المكتوبة تلعب هذا الدور. فربما كان اللباس في ذاك الزمان وسيلة لتحديد الانتماء وسط خليط الأعراق و الديانات و الطوائف . وبالفعل يرى المتأمل في سورة الأحزاب الآية 59 ما ذهبنا إليه في فرضيتنا. قال الله تعالى : " يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك و نساء المؤمنين يدنين من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين و كان الله غفورا" . إن غرض الآية ليس تفضيلا لبعض النساء في الإيمان و لكن ليعرفن و يميزن، عن من؟ جاء في تفسير ابن كثير " يقول تعالى آمرا رسوله(ص) أن يأمر النساء المؤمنات المسلمات خاصة أزواجه و بناته لشرفهن بأن يدنين من جلابيبهن ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية و سمات الإماء. و الحجاب هو الرداء فوق الخمار " . واضح إذن أن النقاب ليس درجة في الإيمان و لكنه زي لتمييز المكانة الاجتماعية : النسب الشريف و الحرة مقابل الأمة المسلمة و المسلمة مقابل المعتنقات لديانة أخرى، غير أن فقهاء الفضائيات لا يركزون على هذه المسألة بل يذهبون رأسا إلى المجادلة في معنى الجلباب و دلالته دون الوقوف عند الغرض من فرضه! وما يؤكد فرضيتنا أن ابن كثير أورد في تفسيره للآية أن المتزوجة لا ترتدي مثل الحرة المحصنة و هذا دليل أن الغرض من هذا اللباس الإشارة إلى الهوية و الفئة و ليس ستر العورة، لأن صدر الرجل و ذراعه فتنة للنساء كذلك لكن لا نجد نصا محكما يثبت طريقة في لباس الرجل. وقوله تعالى "ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين" معناه : إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر لسن إماء أي أن الأمة وهي مسلمة لم يكن مطلوب منها ارتداء الجلابيب الدانية ، فالمسألة مسألة هوية و انتماء اجتماعي وليس سترا للوجه واعتباره عورة! إن الغرض هو درء الاعتداء اللفظي و التحرش الذي كانت تتعرض له نساء الأشراف عند خروجهن ليلا لقضاء الحاجة كما جاء عند جل المفسرين وهذا دور الدولة المعاصرة التي تسهر على حماية المواطنين من الاعتداء ومن دون تمييز. ثم إن اللفظ في الآية ليس من النص المحكم وفق تصنيف علماء الأصول أي انه قابل للتأويل وذاك ما نجده لدى المفسرين الأوائل. نخلص إلى أن الصراخ على الفضائيات في قضية المنقبات ليست سوى محاولة لتلبيس الخطاب القبَلي)من القبيلة( الذكوري لباسا دينيا مقدسا و الحقيقة أنه تعبير عن إرادة فرض السيطرة والوصاية على جسد المرأة، وقد حاولنا أن نبين أن اللباس كان بمثابة بطاقة هوية يميز فئة اجتماعية . قد يقول قائل أن اللباس في عصرنا تعبير عن هوية دينية نرد عليه : اتفقنا.