فجأة غير عباس الفاسي من نبرة خطابه، وشرب من لبن السباع، وتبنى خطاب المعارضة الراديكالية اليسارية والإسلامية ممن لم يستسلموا بعد للميوعة التي يعرفها الحقل السياسي. ففي آخر خرجاته السياسية قال الفاسي أمام اللجنة التنفيذية لحزبه "إن الحياة السياسية في المغرب تتسم بالميوعة"، معتبرا أن "أفظع نماذج هذه الميوعة هو مجلس المستشارين". قبل أن يضيف بأن "هذه الميوعة المروج لها لا تخدم سوى جناح المقاطعين الذين لا يقبلون على صناديق الاقتراع في الانتخابات، وتزيد من قناعاتهم بأنهم على حق". وختم الفاسي تحليله السياسي للوضع في المغرب بالقول :"لذلك علينا أن ننتظر المفاجأة في 2012 ولا نستغربها". وليست هذه هي المرة الأولى التي يأتي بها عباس بكلام سياسي من هذا القبيل، فقد سبق له أمام لجنة حزبه المركزية أن هدد بتقديم استقالته من الوزارة الأولى إذا ما اتجهت الأمور إلى تحميل أعضاء من حزبه مسؤولية أحداث العيون، مع أنه يعرف هو قبل أي إنسان آخر أنه لا يملك الجرأة على فعل ذلك. الجديد في كل هذا الكلام هو أنه جاء على لسان عباس الفاسي زعيم الأغلبية ورئيس الحكومة. ولو صدر مثل هذا الكلام على لسان عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب "العدالة والتنمية" لصدر فورا بيان ناري من وزارة الداخلية يدين تشكيك حزب إخوان بنكيران في المسار الديمقراطي الذي تنعم به البلاد، ولتلته بيانات نارية، تردد بطريقة ببغاوية نفس عباراته، عن أحزاب الأغلبية وعلى رأسها حزب عباس الفاسي. ومثل هذه الاستنتاجات سبق أن كتبت عنها الصحف المستقلة التي أراد الفاسي نفسه في إحدى الاجتماعات الوزارية، عندما كان وزيرا للدولة بدون حقيبة، أن يشكوها للملك على اعتبار أن خطابها يبعث على "التيئيس" و"العدمية" لولا أنه تم إلزامه بالصمت في المجالس التي لا يجرؤ فيها على فتح فمه إلا للتثاؤب. وحتى عندما تصدر مثل هذه الأحكام بيقينية عن أحزاب مثل "النهج الديمقراطي"، أو عن جماعة مثل "العدل والإحسان" فلا نجد لها صدى في صحافة حزب الاستقلال، ولما ترد مثل هذه التوصيفات في بيانات "الجمعية المغربية لحقوق الإنسان" فإن أول من ينبرى لها هي صحافة الأغلبية وعلى رأسها صحافة حزب الاستقلال بمقالات مطولة تنضح سبا وشتيمة. والمفارقة أن تصريحات عباس الفاسي، التي يبدو فيها وكأنه شرب هذه المرة من لبن السباع، تدينه هو وحزبه قبل غيره. فالميوعة السياسية التي يتحدث عنها الفاسي، ليست وليدة اليوم وإنما هي إرث سياسي مغربي ثقيل أحد أسبابه التاريخية هو حزب أسري اسمه حزب الاستقلال الذي تحالف بعض أعضائه النافذين مع المستعمر أثناء اتفاقيات إكس ليبان لمنح المغرب شبه استقلال منقوص السيادة حتى اليوم، وكان شريكا في العديد من الحكومات التي تعاقبت على تفقير المغاربة وتجهيلهم ونهب ثرواتهم، والتزم الصمت تواطؤا أو خوفا، أو هما معا، مع نظام قمعي مستبد. وساهم في كل المسرحيات الانتخابية التي أعطت للمغرب مؤسسات بلا مصداقية ساهمت ومازالت تساهم في تمييع الحياة السياسية. وأخيرا، وليس آخرا، فالميوعة السياسية الفجة بدأت مع حكومة عباس الفاسي نفسه عندما قبل أن يجلس في حكومته وزراء لم يخترهم هو كما ينص على ذلك الدستور، وعندما تلقى لائحة حكومته مثل قدر محتوم نزل عليه ذات ليلة من ليالي القدر، وعندما فرض عليه وزير يعرف الجميع أنه عضو مؤسس وقيادي في حزب "الأصالة والمعاصرة" الذي يضع رجلا في المعارضة وعدة أرجل في حكومة الفاسي... لذلك كان سيكون كلام الفاسي منطقيا وأكثر إقناعا لو أنه طلب إعفاء كل من الوزراء "المفروضين" على حكومته من خارج ما يسمى ب"الأعلبية". أما عندما يريد الفاسي أن يوهمنا بأن أكبر ميوعة في حقل سياسي مائع أصلا، تتمثل في مجلس المستشارين، فهل نسي أن أغلبيته هي التي صوتت، في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ البرلمانات، على رئيس حزب يقدم نفسه "معارضا" لتولى رئاسة الغرفة الثانية داخل البرلمان؟ فلماذا ابتلع الفاسي وحزبه آنذاك ألسنتهم الطويلة ولم يخرجوها إلا بعد أن أثيرت فضيجة "النجاة" في بهو هذا المجلس؟ لكن أهم ما جاء في كلام عباس الفاسي هو قوله بأن هذه الميوعة ستؤدي إلى تعاظم صفوف المقاطعين للانتخابات، وأهمية هذا الاستنتاج تكمن في كونه صادرا عن وزير أول فرض على المغاربة لأن أغلبيتهم اختارت أن تقاطع انتخابات 2007، وقد كتبت آنذاك ومازلت مصرا على القول بأن تعيين عباس الفاسي على رأس الوزارة الأولى ما هو سوى عقاب ملكي جماعي لأكثر من 80 في المائة من المغاربة الذين قاطعوا تلك الانتخابات. واليوم عندما يحذرنا الفاسي من وقوع مفاجآت عام 2012، يعرف أنه أحد أسبابها، فهو كمن يريد أن يبرئ نفسه من مسؤوليتها. فبعد أن قضى وطره منها قال لها أنت طالق... ومع ذلك يبقى كلام عباس الفاسي مثيرا للانتباه، أولا، لأنه بمثابة شهادة شاهد من أهلها على ما بلغته الأمور من ميوعة على أعلى المستويات في البلد. وثانيا، لأنه سيزيد ترسيخ فقدان الثقة لدى المواطن في العمل السياسي وفي السياسيين. وثالثا، وهذا هو مسك الختام، فأن يجرؤ شحص مثل عباس الفاسي على ترديد مثل هذا الكلام في أكثر من مناسبة، فهذا مؤشر على أن أحد أركان البيت أصبح أوهن من نسيج بيت العنكبوت...