تكررت تبريرات الحكومة هذه حين احترقت فدوى العروي، الأم المطرودة من منزلها بمنطقة سوق السبت، وحميد الكنوني بائع الخبز بمدينة بركان، لما سحبت منه عربته، وأسماء أخرى تُقدر بعشرة، كلها تنتمي لمناطق مهمشة، ما سمع عنها يوما الأجانب، تماما كما لم يكن أحد يعرف عن سيدي بوزيد قبل توهج البوعزيزي. وسبق حرق العسكري المتقاعد عبد الكريم لنفسه بيومين، "احتراق" زيدون، وهو خريج جامعي ورب أسرة عاطل عن العمل، كان معتصما مطالبا السلطات بتأمين عمل له. ووصلت النار إليه من رفيقه الذي كان قد اشتعل بدوره "عن طريق الخطأ"، اثر قمعهم من طرف عسكري، عندما كانا متوجهين لشراء الخبز بعدما أصابهما الجوع، فتجاوزا سور بناية المعتصم، قبل أن يقفز عناصر السلطة لضربهما، فاندلعت في أحدهما النار التي كان يهدد بها (كانا قد بللا نفسيهما بالبنزين)، قبل أن تنتقل لزيدون لما حاول إنقاذ صديقه، حسب ما تظهره صور وفيديوهات انتشرت عبر الانترنت. الاحتراق غير المعتمد ظاهرة سبق أن قضت على سبع شباب في يوم الاحتجاج الكبير بالمغرب، يوم عشرين فبراير بمدينة الحسيمة؛ لما احترقوا دفعة واحدة في مصرف، قالت السلطة أنهم دخلوا لسرقته، بينما تشير مصادر حقوقية وأسر الضحايا إلى أن السلطات أوغلت فيهم الضرب قبل أن تلقيهم في المصرف وتحرقهم. وطولبت السلطات بالكشف عن تسجيلات الكاميرات المثبتة في البنك، الأمر الذي ترفض الاستجابة له، على الأقل حتى الآن. لم يقم الذين أحرقوا أنفسهم بما قاموا به كخيار أول، إذ تظهر التقارير الإخبارية أنهم احتجوا، وحاولوا إسماع صوتهم، ليتوجهوا في الأخير نحو أجسادهم، ليس بالتعري كما فعلت الشابة المصرية علياء المهدي، ولا بالإضراب عن الطعام الذي لم يعد أحد من المسؤولين يخشاه، بل بأقسى الأشكال المعبرة عن يأسهم؛ إحراق الأجساد بعد أن احترقت الكرامات. وتقول المحللة النفسية كنزة الخياط في تعليق على ظاهرة حرق الذات: "هناك رغبة للتأثير في مخيلة الآخر. هذا الأمر يُحدث عند الذين يحضرون أو الذي يسمعون به شريطا من الأحاسيس المرعبة. مجرد الحديث عن الأمر يكفي لإثارة صورة ذهنية مرعبة: ولاعة بشرية. إنها حتى أقوى من "العمليات الانتحارية". فالانفجار لحظة العمليات الانتحارية يعد موتا سريعا، بينما في الحرق مستوى متقدم من الرعب؛ إنه إما أن يكون موتا بطيئا أو في حالة النجاة نكون أمام أفظع أنواع الإعاقة. إذا كنا نبحث فقط عن الانتحار فهناك طرق أبسط، وأقل ألما. الاحتراق بالنار هو انتحار للتضحية بامتياز. مستوى قياسي في عدم قابلية الاحتمال من تأليم الذات، ما يُنتج موجة صادمة في المجتمع. الأمر شبيه بمضمون المقولة المسيحية: أتألم من أجل خطاياكم". وعلى سؤال: لماذا، ورغم الحصيلة الثقيلة من المحترقين في المغرب، لم تقم الثورة؟ أجابت خياط: "في تونس: الاحتقان الاجتماعي، الإحساس القبَلي، "ذكر" ابن القبيلة تضربه "أنثى" غريبة، الخريج يناضل بعربة خضاره، رمزية الصفعة، التوهج في النار كمشهد مفاجئ، تهيأ المصور، الصور القبلية الجيدة، تراكم الاحتجاج، المعارضة المنظمة والمنتشرة، الخريج محترق أمام عائلة الطرابلسة الشبه أميين، الاحتقان القبْلي، الصور الجيدة، تراكم الاحتجاج، القمع، التراكم.. فالثورة". وتتابع كنزة خياط: "أما في المغرب: يوم 20 فبراير تنفيس للغضب، الخطاب الملكي في 9 مارس زاد التنفيس، الدستور الجديد، تشغيل جزء مهم من العاطلين عن العمل، (الحرق محاولة تقليد رديئة للبوعزيزي)، الحرق أصبح "مورطا" لكنه غير مفاجئ لقلب المعادلات، أمام خريجي القطاع الخاص ليعملوا فيه، عدم وضوح المطالب، شباب يطالبون ب"ملكية برلمانية"، تنظيمات تدعم الشباب، تريد "إسقاط النظام"، تنظيمات ضعيفة الانتشار تطالب مع الشباب ب"الملكية البرلمانية"، شباب يطالبون ب"الجمهورية"، بعد تعنت النظام عن التراجع، شباب "الجمهورية" يهاجمون شباب "الملكية البرلمانية"، تنظيمات تسحب دعمها للشباب، شعبية الملك عند جزء كبير من الشعب، بيانات عن معطلين يرفضون تسييس قضيتهم ويؤكدون أن التشغيل بما يوفر الكرامة مطلبهم الوحيد، رئيس وزراء يتحدث بلغة يفهمها البسطاء، ملتحين بما يوهم بأن "الإسلاميين" الذين وصلوا إلى الحكم في بلدان الربيع العربي وصلوا إلى المغرب أيضا، ملك يتراجع جزئيا ليُمرر قراراته عبر قنوات غير مباشرة" وتشير المحللة إلى أن كل تلك العناصر وغيرها اشتركت لتُحدث فرقا في الدولتين موضوع الحديث، حتى وان الخبراء يؤكدون أن المغرب لم يتجاوز الأزمة بعد، وأن الاحتقان يزيد في الشارع.. ولكن الأكيد أن كثيرا من الشباب سيشتعلون نارا في الأشهر القادمة، متبنين عن وعي أو لاوعي، التوجه الثوري والتحرري. --- المصدر: أنباء موسكو