راج بشكل كبير جدا مفهوم الدولة الإسلامية إبان ظهور الحركة الإسلامية مع الإخوان المسلمين غداة سقوط الخلافة العثمانية ، ما لبث أن تضخم مع توسع الإسلام السياسي و تجدره في المجتمع لينسحب على جميع شؤون الحياة( فالإسلام شاملا بطبعه) احتجاجا على انسحاب الدين من أغلب المجالات الحياتية خاصة مجال ممارسة السلطة السياسية . اشتغلت الحركة الإسلامية بجانب التاريخ تراقب تدبير شؤون الحكم على خلفيات فكرية مختلفة و تؤسس معالم الدولة الإسلامية البديلة ، نجد ذلك في المعارك الفكرية الأولى لكتابها، لكن المشكل الكبير الذي اعترى المفهوم الذي بنته للدولة هو أنه لم يتجاوز مستوى الخطاب الاحتجاجي ولم يتسن لأصحابه الانتقال إلى إبداع نظرية في الدولة تكون ثالثة إذا اعتبرنا أن لها مفهومين الأول ليبرالي و الثاني اشتراكي . و لعل العامل الأهم الذي حال دون انتقال الخطاب الإسلامي إلى مستوى تشكيل نظرية سياسية هو الفقر الذي يعرفه هذا المجال في التراث السياسي الإسلامي ؛ فالدولة لم يضع القران لها أية أسس و لم يرسم لها أي شكل لأنه بالنظر إلى طبيعته ووظيفته كتاب هداية لمكارم الأخلاق و تربية الناس على توحيد خالقهم ، وحتى عندما عالج ما يقترب من ممارسة السلطة حث على قيمة فكرية و خلقية و هي الشورى ..لكنه لم يضع أي شكل من أشكال الحكم. لقد وجد الرسول (ص) في المدينة ،عندما حايث التاريخ ، نفسه مضطرا لممارسة السلطة باليات من محيطه الثقافي و الاجتماعي حيث الحاكم فرد..؛ و مع أن القران يحث على العدل و الزهد في الدنيا، كانت النتيجة حكم الفرد العادل. لكن لا مكان للتناوب ؛ فلا يأتي الثاني إلا غيب الموت الأول ..تلك إذن قصة ممارسة الحكم في تاريخ الإسلام مع الرسول و خلفائه من بعده . أناس رباهم القران فعدلوا لكنهم حكموا إلى أن ماتوا .هناك من يستبطن ذلك اليوم ، فمسألة المرشد ( مرشد الجمهورية ، مرشد الجماعة ، شيخ الزاوية...) خير دليل على ذلك. لكن النتيجة التي كانت خلافة وصفناها بالراشدة هي طبعا نتيجة قوة الإسلام التخليقية ، ظلت هذه الخلافة مثالا تشرئب إليه الأعناق لكن دون جدوى، فكلما سكن وهج الإسلام في النفوس والمجتمع إلا و آل الحكم إلى الحلكة و أصبح للتوحيد معنى أرضي كذلك، إضافة إلى صنوه السماوي، أليس السلطان ظل الله في الأرض ؟ . ذلك إذن ما آلت إليه الخلافة في تاريخ الإسلام بدأت فردية عادلة وانتهت فردية جائرة ، ما خالف ذلك فهو الإستثناء الذي يؤكد القاعدة ، نستحضر هنا تجربة عمر بن عبد العزيز الأموي ، له سيرة طيبة في نفوس المسلمين ؛فهو بالرغم أنه ورث الملك و حكم بمفرده لكن ذلك لم يظهر أمام عدله ، انتهت مدته فرجعت البنية السياسية مع توحيد السلطة في يد السلطان تقبل كل تصرفاته بغض النظر عن عدلها أو جورها ، فكل تصرف وراءه حكمة ما، تلك وضعية تماهت فيها- في الفكر السياسي السلطاني- صورة السلطان في الأرض مع صورة الإله في السماء . هذا ما ورثه المسلمون في حاضرهم ، لم تكن هناك دولة إسلامية نريد العودة إلى ظلالها حيث العدل و السكينة كما فهمنا السياسي الإسلامي قبل أن يغلب عليه الحس البرجماتي .فعلا الدولة الإسلامية/دولة الخلافة ظلت طوبى ولم توجد دولة أكثر إسلامية مما تعين في التاريخ، هذا هو الواقع و هو عصي عن الارتفاع . خلاصة الأمر كان عدل الدولة مرتبطا بعدل سلطانها ، لم نكن نسأل هل الجماعة هي التي تحكم أم هي التي تختار الحاكم ، أكثر مما نسأل هل الحاكم عادل ؟ ولم نعد نجادل السلطان في مصدر مشروعيته أكثر مما نسدي له النصائح ليبتعد عن الجور ويقترب من العدل؛ فذلك أضمن لبقائه. تلك كانت مادة المدونة السلطانية. هذا فراغ في الفكر السياسي الإسلامي ورثه المصلح في عصر النهضة ، أراد أن يبتعد عنه فما استطاع ، حيث لجأ إلى المقاربة بين ما ورثه و بين ما أفرزته الحضارة الغربية من فكر سياسي( العقد الاجتماعي ، دولة المواطنة، دولة الحق و القانون...) . هنا تظهر الشورى أختا للديمقراطية إذ لم تكن بديلا عنها؛ أنظر فقط إلى عناوين مؤلفات الإسلاميين ستجد توترا بينا بين المفهومين .الشورى روح و الديمقراطية هيكل ، فالأولى قيم و الثانية آليات هذا ما انتهى إليه السياسي الإسلامي. المصلح الإسلامي يريد إرجاع الدين إلى ميادين الحياة و لا يبقى مجرد طقوس في مكان أو زمان ما : الإسلام دين ودولة؛ مصحف وسيف؛ عقيدة و شريعة ؛أخلاق وعبادات .. من يذهب إلى شيء غير هذا فهو يسيء للإسلام ، نستدعي هنا محنة على عبد الرزاق في " الإسلام و أصول الحكم"؛ بدعه الإسلاميون ..لم يتوفق في فهم الدين وقراءة التاريخ.... ستستمر سنن التاريخ و يلتقون معه في النتيجة فهم يرفعون اليوم عنوان الدولة المدنية ذلك ما دعا إليه عبد الرزاق؟ دولة الإسلام كلها عدل ، لا توجد فوارق إلا ما كان منها معقولا ، المال مال الله يأخذ من الغني ما يسد حاجة الفقير..لا يطلب أحد الرياسة ، فهي تعطى فقط لمن لا يطلبها ....يتحدث الإسلامي هنا عن طوبى قديمة وجديدة ، التاريخ نطق بخلاف ذلك ...ما سل سيف كما سل في الخلافة. مع الأيام ينمو لدى السياسي الإسلامي حسا برجماتيا ، أصبح يتكلم عن أشياء و يسكت عن أخرى كثيرة . لم تعد الدولة الإسلامية مطلبا فكل الدول إسلامية ؛ فقط أنظر إلى الدساتير ستجد ذلك .لم نعد نريد إقامة الدولة الإسلامية فهي قائمة ، لم ننتبه لذلك مدة ما يقرب لقرن من الزمان، منذ تأسيس الإخوان المسلمون وخطاب الحركة الإسلامية احتجاجي : أين الدولة الإسلامية ؟ اليوم هي قائمة إذن؛ فقط عليها ملاحظات؟ . ربما إسلاميو المغرب فطنوا لذلك مبكرا مقارنة مع إخوانهم في المشرق . ففي هذا الأخير لازال شعار " إسلامية إسلامية.. لا شرقية لا غربية " يرفع في الميادين. نعم الحس البرجماتي عند السياسي الإسلامي ينمو شيئا فشيئا دون أن يعترف هو بذلك ، كل ما يحرجه يسكت عنه، فبعد أن أقر إسلامية الدولة لكي لا يسبقه إليها العلماني ، ابتعد عن مسائل/ قلاقل؛ فداخل الدولة الإسلامية حق لنا أن نسأل: هل هي دولة مواطنة أم دولة مسلمين مع أهل ذمة ؟ نعلم أنه لم تحدث عند الفقيه مراجعات بهذا الصدد.فكل الإرث الفقهي في التعامل مع أهل الذمة يستدعى لتأكيد عدل الإسلام في التعامل مع الأقليات. ليستدر الإسلامي عطف القبطي يقول له أنظر كيف عامل الإسلام أهل الذمة ؟ يصور له أنه مواطن من الدرجة الثانية ،يسيء من حيث أراد أن يصلح. في هذه الحالة لم يندمج بعد الإسلامي في مقتضيات دولة المواطنة ؛ فالانتماء على أساس الوطن وليس الدين . تلك إذن علمانية و العلمانية لم تصبح إسلامية بعد ، ربما سيكون ذلك بعد مسك السلطة و تحت ضغط الواقع ...فالتاريخ يواصل العمل. يستمر الواقع المشاغب في طرح الأسئلة ، هل دولة الشريعة ستقيم الحدود /العقوبات؟ لا يأبه الفقيه بالواقع، فهو لا يضغط عليه مثل السياسي، لذا لا يلتفت إلى مراجعة ما جاء به نص . يحترم السياسي الإسلامي ما قاله الفقيه .. لا يناقش ذلك، لم تحن بعد شروطه ، هناك فقه أولويات، ومنهجية مصالح و مفاسد ...يوظف ارث العز بن عبد السلام و القرافي و الشاطبي...ينتج فقه وسطيا . يكثر الدفاع عن الوسطية، لكنها ليست أكثر من استمرار في الابتعاد عن المساحات الساخنة في الفكر الإسلامي ؛ فالإسلامي لا يراجعها بل يسكت عنها؛ فهو بالرغم من أن زميله الفقيه لا يعترف بالقوانين الوضعية لأنها لم تصدر عن الوحي ، يشاطره الموقف في النظر لكن يخالفه في العمل. شن السياسي الإسلامي حربا على دعاوى العلمانية منذ نشأته إلى الآن ، الأمر مفهوم ؛العلمانية نشأت في بيئة غير بيئتنا و حضارة غير حضارتنا ..و الإسلام ليس هو المسيحية ، هذا مايقوله. يرد عليه العلماني ، لا نريد دولة ثيوقراطية ..نريد دولة مدنية . تستمر الحرب كل فريق يصرخ و يصم أذنيه لا يريد أن يسمع ، خلق ليتكلم ، هنا هما معا أوفياء لبيئتهما . مع قليل من التأمل ، ليست هناك مسافة كبيرة بين الفريقين ؛ ينادي العلماني بدولة المواطنة تحترم الجميع ولا يكون الانتماء على أساس الدين ، يقبل الإسلامي هذا ، بعد معاناة كبيرة ، لأن محمد عبده دعا إلى ذلك من قبل ، هاجمه الإسلامي نريد الخلافة، ربما كان الوقت مبكرا، لكن الآن يقبل الإسلامي ، بكثير من الغموض، دولة لا يميز فيها بين المسلم و النصراني و اليهودي..الفقيه لا يبالي بهذا القبول ويستمر في الحفظ على ترسانته. يقول العلماني الحريات الفردية مقدسة ..يقول الإسلامي: الإسلام قدس الحرية فمن شاء فليومن و من شاء فليكفر، لكن إلى وقت قريب عندما قال أحد الفقهاء بأن المرتد لا يقتل، قامت دنيا الإسلامي ولم تقعد..يِؤشر ذلك على التباس في الموفق .لا زال هناك غموض. لكن مع ذلك فهو بعد وصوله للسلطة يتفق مع العلماني : الحريات الفردية محمية داخل الدولة المدنية ، لن نغلق الخمارات ، لن نفرض نمط من اللباس، لن نمنع العري في الشواطئ، لن نمنع الأفلام السينمائية المخلة بالحياء...لكن سننشئ فضاء حرا و المجتمع هو الحكم . يراهن الإسلامي على مشروعية أخرى ..مشروعية الصناديق ؛ لم تعد مشروعية النص تكفي...يبدو أن في الميدان من لا يؤِمن بها. فعلا ، هناك اتفاق . يريد الإسلامي أن يتعايش مع خصومه . العلمانية إذن قبلتها مقاصد الدين ، لم تعد محرمة ..اطمأن فريق و شكك أخر، لسان حاله يقول هذا تكتيك و تقية، ترك له الإسلامي مساحات ليقول ذلك فمراجعاته كانت ناقصة ، حيث تقدم السياسي و لم يبرح الفقيه مكانه. قد تدفع ممارسة الاسلامين للسلطة ،في خضم الربيع العربي، الفقيه إلى مواكبة التغيير وانتاج منظومة فكرية معاصرة تسعف السياسي في هذه اللحظة الحرجة، فوضعه لا يحسد عليه.