ليس هناك نظام سياسي واحد ومطلق. هذه المقدمـة الوجودية التي يمدنا بها علم السياسة و القانون الدستوري، تجعل من الأطروحة الإسلامية الرافضة للعلمانية والسلطة الدينية نموذجا أخر يمكننا من مقاربة السلطتين السياسية والدينية والعلاقة بينهما، انطلآقا مما تعتبره مسلمات تؤسس لفكرها السياسي. ويمكن أن نجمل هذه الأسس النظرية فيما يلي: المسلمة الأولى: الدولة ليست ركنا من أركان الدين. ذلك أن قيام الدولة يدخل في إطار التدابير الإنسانية التي تقوم بها الأمة لتحقيق العمران البشري، ولم يفصل الوحي في كيفية بناء الدولة، غير أن القول بهذا التقرير الذي يجعل قيام الدولة خارج أركان الدين، لا يعني مطلقا أن الطرفين- الدين والدولة- منفصلين، أو أن العلاقة بينهما منتفية، كما يقول بذلك التيار العلماني العربي. فالقرآن الذي لم يفرض إقامة الدولة، فرض من الحقوق والواجبات الدينية على المجتمع المسلم، ما لا يمكن إنجازه خارج الدولة. 1 ـ إن الدولة في الإسلام، بطابعها المدني تتميز عن طبيعة الدين، وإن برأها من الكهانة والثيوقراطية، إلا أنه لا يقطع الصلات بينها وبين الدين، على النحو الذي يقول به العلمانيون، فهي واجبة بنظر الإسلام، وضرورة شرعية، لأن في تخلفها تخلف الواجبات التي فرضها الدين! من هنا فاتصال الدين بالدولة يرجع في أحد زواياه إلى وجود نصوص دينية، داخلة في إطار الحق والواجب الديني، المتوقف على وجود السلطة السياسية الغالبة في الجماعة بتعبير -كمال أبو المجد-، وحينما نتتبع بعض الآيات مثل قوله تعالى خذ من أموالهم صدقة؛ فأخذ الزكاة هنا لا يتحقق إلا مع وجود سلطة سياسية، وهذا ما يطلق عليه الأصوليون، أي علماء أصول الفقه إقامة الدولة ثابتة بالاقتضاء. فالدولة إذنخ يقول طارق البشري- جزء من رسالة الإسلام وتنظيم السلطات، وإقامة المؤسسات التي تصلح حال الأمة، وحفظ الحقوق والواجبات بالعدل جزء من الشريعة. 2 ـ إن القول بأن الإسلام دين ودولة يمكن أن يفهم انطلاقا من أمرين اثنين متلازمين: الأول: أن الإسلام لم يضع تصورا نصيا من القرآن أو السنة للدولة. الثاني: أنه لم يقم الإسلام كدين؛ وينتشر في الأقطار إلا بالدولة، والتجربة التاريخية للرسول صلى الله عليه وسلم، كرسول وقائد سياسي، ومرحلة الخلافة الراشدة (دامت حوالي ثلاثين سنة)، أثبتت أن الأمرين غير متعارضين لسبب رئيسي، هو أن بناء الدولة لا يستند على نص شرعي ـ ديني ـ ، بل على إنتاجات التجربة البشرية المؤطرة بالمرجعية الدينية، وحيث إن المرجعية العليا تركت المجال واسعا للتدخل البشري في إقامة الدولة، فإن إبعاد الدين عن المجال السياسي لا يمكن أن يتم إلا بالإرادة الجماعية التي أنشئت الدولة، إذ لا يمكن لمجموعة بشرية لا ترتضي مرجعية معينة أن تأسس عليها اجتماعها السياسي في إطار دولتي. من جهة أخرى، تقرر الأطروحة القائلة بمدنية الدولة إن الإسلام لا يعرف نظاما سياسيا واحدا يفرضه على الناس، وإنما يعرف قيما ملزمة لجميع الأنظمة. لقد كان من الطبيعي أن يلتزم الفكر السياسي الإسلامي المعاصر ـ حسب فهمي هويدي ـ بما استقر عليه الفقه السياسي السني منذ القديم من أن الإسلام في نظامه السياسي؛ لم يعن بشكل الدولة خلافة أو إمامة، وإنما عني بقيم ومبادئ تقوم عليها الدولة، وعلى رأسها الشورى والعدل. هذا البعد للدولة المدنية يعتبر أسا معرفيا، قبل أن يحول إلى التطبيق عبر آليات الدولة، فهو حسب المقالة الإسلامية المعاصرة؛ سابق عن الدولة، لأنه يمثل مرجعيتها، والسبب المباشر الداعي إلى قيامها، ويمكن التأكيد على أن هذا التمثل الذهني؛ يحول الدولة من مفهوم رمزي، إلى وظيفة لحراسة الدين(؟) وإعمار الدنيا. أي تحقيق دولة المصلحة العامة. والصالح العام في ظل هذه الدولة الإسلامية/ المدينة؛ ليس زمنيا أو دنيويا، بحث يلغي دور الدين في تحقيق الصالح العام، كما هو معروف في الدولة العلمانية، وإنما هو يؤدي حتميا إلى إقامة الدين بحسب الفهم الجماعي، ومصالح الناس الثابتة والسابقة على الدولة بتعبير محمد سليم العوا، وتفقد الحكومة شرعية وجودها بإسقاط إقامة الدين، أو رعاية مصالح المجتمع. وبالتالي فإن إقامة الدولة عند عبد الوهاب الأفندي هو الفرض الجماعي الذي يقع على عاتق الأمة للدفاع عن نفسها وعن الدين. فمنذ الخلافة الراشدية؛ أدرك السلمون أن السلطة السياسية للدولة، مدنية وليست دينية، لذلك لم ينصب أي خليفة لاعتبارات دينية، بل كان تدخل سلطة الإرادة العامة في الاختيار، هو الاعتبار الحاسم في التولية. وكان ضعف الشورى يؤدي حتما إلى ظهور العنف السياسي، وتنامي نزعة الحاكم الفرد، حتي إن ذهنية الفقيه استسلمت؛ لما ورد في الأثر من أن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، وترتب عن ذلك تهميش الأمة، وتغيب بناء المؤسسات السياسية والعالمية، فالتحق العالم الفرد بالحاكم الفرد، وتم القضاء على أمل بناء نظرية سياسية تقول إن الله يزع بالأمة ما لا يزع بالسلطان والقرآن.