نسجت التربية الحديثة علاقات وطيدة ومعقّدة مع المدرسة العمومية في مختلف المجتمعات الإنسانية المعاصرة. مثّل هذا المعطى مؤشرا حاسما على نجاعة فكرة عمومية المسألة التربوية، بعد ما كانت مرتبطة بالأسر ومنحصرة فيها، خاصّة لدى العائلات الأرستقراطية التي كانت تربّي الأولاد تربية النبالة التي تحثُّ عليها تقاليدها. عكس ذلك، غدت التربية في عصرنا مشكلة عمومية بامتياز، وأصبح الجميع معني بها في إطار الدولة الوطنية. لقد أصبح يُنظر إلى التربية في إطار المجتمع القائم باعتبارها سيرورة تتطور من داخلها وظائف شتّى: اجتماعية، مدنية، سياسية..الخ. وتعمل السياسات المتبعة في هذا الشأن على جعل تربية الحواس والذوق وملكات العقل والتربية المدنية شؤونا عامة مرغوبة لدى الجميع. اتخذت التربية فيما يخصّ فائدتها البيداغوجية الصرفة دلالة مجموعة من السلوكات التي تُطور منهجياً قدرات الصغار (Cuvilier,1967: 62). كما تقوّت النظرة المؤسساتية للتربية منذ مطلع القرن العشرين إلى اليوم، لتصبح رابطاً أساسياً بين الكبار والصغار كما أشار لذلك إميل دوركايم، حيث تتمثل في التأثير الذي تحدثه الأجيال الراشدة في الجيل الصاعد من أجل مساعدتها للاندماج في الحياة الاجتماعية. غير أنّه إذا كان هذا التعريف، إضافة إلى تحديدات أخرى كثيرة ومختلفة، هو ما يمدنا بعناصر أولية لفهم مجال اشتغال التربية باعتبارها منظومة من السلوكات الساعية لتنظيم علاقة الأفراد في المجتمع بما يخدم مصالح وأهدافاً اجتماعية معينة، وذلك تبعاً للفترة الزمنية وتتابع الأجيال والصراعات المجتمعية داخل كل حقبة تاريخية؛ فإنّ كلّ فرد وكلّ جماعة يُنتظر منه، بموجب ذلك، أن يضيف من خلال خبرته وممارسته اليومية مبادئ جديدة إلى الجيل الآخر، مساهماً بذلك في إلغاء بعض من تلك المبادئ والسلوكات وتعويضها بأخرى مرغوبة. وفقا لهذا الأمر، لم يعد الفعل التربوي نمطيا جامدا لا يتغيّر ولا يتبدّل كما في التقليد الكلاسيكي، وإنّما أصبح مرنا منفتحا على كلّ ما من شأنه أن يساهم في تطويره نحو الأحسن. ولمّا تقرّر هذا الأمر بصفة واسعة، تَوجَّب على الفاعلين التربويين، أفرادا كانوا أو مؤسسات، تجويد أساليبهم التربوية ومراجعتها بصفة دائمة ومستمر. لكن، يبقى المبدأ العام المؤسّس للفعل التربوي، هو في الحالة الراهنة "الحرية"، ثابتا في وجوهريا في كلّ تجديد أو مراجعة بيداغوجية ممكنة. الواقع أنّ التربية تشترط وجود حرية تمكّن كلّ فرد من المبادرة والالتزام من تلقاء ذاته دون وصاية أو قصور. بهذا المعنى، تقع الحرية في صلب التربية لتكون كلّ تربية غير مبنية عليها فاقدة لأساسها الأخلاقي الذي هو مبرّر وجودا أصلا. وفي هذه النقطة تحديدا تظهر أهمية جون جاك روسو والفيلسوف الانواري عيمانويل كانط فيما قرّراه من أفكار تدعوا في مجملها إلى تُحرّر الإنسان من خلال الفعل التربوي. اتضح على ضوء أفكارهما أنّ التربية بدون ميل وتأهب للحرية لا تعني سوى تدجين وإخضاع النوع البشري لمدوّنة من الأوامر والنواهي التي يلزمه الاستجابة لها بدون تفكير حرّ. لذلك يلزم ضرورة أن نجعل الفعل التربوي مقرونا بتملّك الإرادة المستقلّة القادرة على الفعل والمبادرة الحرّة؛ إذ لا يُصار إلى تجاوز قصور عقل الإنسان بدون تحرير فكره وإرادته من القيود التي تكبّله داخل المجتمع. هكذا؛ تمنحنا الحرية الشجاعة الحقيقية على استخدام عقلنا بأنفسنا، ويلزم التربية أن تعمل على تحقيق الفعل الحرّ عبر اعتماد برامج بيداغوجية تشجّع على المبادرة الحرّة، وتكون قابلة للتعميم على كلّ أفراد المجتمع. الظاهر أنّه بدون حرية تغدو كلّ تربية مجرّد ترويض للإنسان حتى يخدم قوى أكبر منه (السلطة). فالإنسان يشعر بأنّه حرّ كلّما كانت ممارسته لإرادته تمكّنه من أن يختار الخيارات المتاحة له دون إكراه أو ضغط. لذلك، يصعب إقناع الإنسان بأنه غير حر مادام لديه هذا الشعور بالحرية واستقلالية إرادته. فحتى اليونان (أقصد الفلاسفة) كان لديهم إدراك أخلاقي بأهمية ارتباط التربية بالحرية؛ حيث اعتبرت هذه التربية حرة نظراً للتوزيع المتوازن الذي ألحقته بالعقل والجسم. كان الهدف الأساسي لهذا النوع من التربية الإغريقية يكمن في إعداد الفرد في إطار طبيعته الخاصة حتى يكون مواطناً للدولة المدينة. ولقد سبق وان أصرَّ أرسطو، مثلا، على أن يمتد العمل التربوي من الولادة حتى بلوغ سن العشرين اعتقادا منه بضرورة مواكبة الطفل حتى يتمكّن من الفضيلة. بالمقابل، لم يكن الرومان يعرفون هذا المفهوم الحرّ للتربية التي تميزت بها الثقافة اليونانية القديمة، ولذلك ركزوا اهتمامهم على التربية البدنية التي كانت بمثابة العمود الفقري للتربية اليونانية. لقد كان غرض هؤلاء الرومان هو صناعة الخطيب الذي يجب أن يلم بالفلسفة والقانون والأدب ليكون رجلاً مثقفاً ومجيداً لصناعة الكلام فقط. لكن ماذا عن تقاليدنا التربوية الحديثة والمعاصرة؟ لماذا لا تولي ممارستنا التربوية لحرية التفكير أواويتها المستحقة؟ الظاهر أنّه تحليل هذه المعضلة التربوية، كما هي قائمة في ثقافتا، يحتاج للغوص في جذور الاستبداد الأبوي لدينا، ذلك أنّ الخلفية الثقافية لقيمنا واعتقاداتنا التربوية هي ما يحول بيننا وبين نهج أسلوب التحرّر في التربية. لذلك، يمكن المجازفة بالقول إنّ مشكلتنا التربوية هي نفسها مشكلتنا الثقافية! فبما أنّ نسق قيمنا لم يعالج بعد مجمل الاعطاب الثقافية والسياسية التي تعتريه، فإنّه من السابق لأوانه الحديث عن تأهيل المسألة التربوية مهما كانت الوسائل البيداغوجية المعتمدة من أجل ذلك. إنّ الحرية ضرورية لتطوير التربية، وهذا يعني بالنسبة لهذا التحليل أنّ فسح المجال للإبداع يتوقّف على تغيير بعض التقاليد الراسخة عندنا، خاصّة منها المتعلقة بتصوّرنا للمربي والمتعلّم معا. الأمر، هنا، يحتاج إلى وقفة صريحة مع الذات، خاصّة تلك الوقفة النقدية القادرة على كشف مكمن الخلل في ثقافتنا من أجل مقاربتها بنظرة جديدة، نظرة علمية بعيدة عن حسابات الأيديولوجيا التي أزّمت الفعل التربوي تأزيما كبيرا. يشي واقع مؤسّساتنا التربوية باستحكام أزمة السلطة البيداغوجية للمدرسين من جهة، وسيادة ثقافة "الشيخ والمريد" من جهة ثانية. ظلّ هذا الواقع المتأزّم، أصبح ضروريا تسوية المشكلة الثقافية أولا قبل البيداغوجية ثانيا؛ حيث لا يمكن للفعل التربوي أن يتطوّر ويغرس بذور التحرّر والفكر الناقد لدى الناشئة من دون وجود ثقافة تعترف باستقلالية الطفل وحريّته في التفكير. ولسنا بحاجة هنا إلى التذكير بأنّ التربية الناجعة إنّما تنبني على تعاقد تربوي واضح يقوم على مبادئ التفكير النقدي الحرّ. الواقع أنّنا نحتاج في تحقيق هذا الأمر إلى القطع مع منظورنا التقليدي للتربية بجعل الحرية ممارسة ثقافية تشمل مختلف مناحي الحياة وليس الحديث عنها فقط في الوسط التربوي. غير أنّ التقليدانية الراسخة في ثقافتنا الاجتماعية جعلت معتقداتنا الثقافية أدوات تبريرية مضادّة لكلّ تحرّرية ممكنة. وهذا الأمر هو ما أفضى لدينا إلى كون غياب الحكامة والتدبير العقلاني الديمقراطي للفضاء العام مناسبة لترسيخ طغيان نموذج المربي المتسلّط، بالتالي تبريره قيميا وسياسيا. يجعلنا هذا الأمر نعترف بأنّ المسألة التربوية ليست مشكلة معزولة عن باقي المشاكل الأخرى، خاصّة منها السياسية والثقافية والاجتماعية. وفي ظلّ هذا التداخل بين كلّ هذه الجوانب والأبعاد، يكون حرّي بنا أن نعترف بأنّ دور الفاعل التربوي يصبح حاسما في تحقيق استقلالية الحكم لدى الناشئة كلّما شجّعنا الحرية في المؤسّسات التربوية بكيفية عقلانية مسئولة، تسمح بتجويد الممارسات البيداغوجية بكيفية شمولية لا تنحصر فقط فيما هو تقني. وفي هذه الحالة، يلزم على نسقنا السياسي والثقافي أن يكفّ عن إدانة الحرية بعدم تشنيعها واتهامها مسبقا بتهديد أركان النظام الثقافي السائد.