الشخصية الرابعة التي لا يمكن القفز على تاريخها أو نسيان ماضيها وهي الزّى باعسين، ومن خلال تركيبة الاسم، قد يعتقد الكثير من الناس، بأنها من أهل باعسين من قبيلة إزولاين، والحقيقة خلاف المعتقد، فهي تنحدر من فخذ ة بومرور، التي تنحدر من قبيلة إرجدالن ، وقد استوطنت البلد شأنها شان باقي ساكنة القصر ،ولا يمكن بالضبط تحديد تاريخ الاستيطان ،وكانت تسكن بقاع درب اليهود ،فقايضت بيتها ببيت جديد مع هل احدى أوعدي وادرو ، وبيتها الحالي يطل على الرحبة بجوار بيت ايت حى ،نافذتها تحرس الذاهب والواقف والجالس بالرحبة ،تنصت من الغرفة على المارة بالحركات والسكنات ، وفيها كانت تراقب العالم كما كان يراقب هيتلر حركات العالم وسكناته، ويدير أمور الحرب من قاطرته المتحركة ... فلا تتوانى لحظة في متابعة الأخبار،.... في بيتها يضع عبد الرحمان الخرّاز، أو الإسكافي البسيط متاعه بأسفل الدرج ،ربحا لعناء نقله،وطبعا بمقابل بسيط هو: أن تجلس الى جانب طاولة عمله عندما يجتمع الرجال بعد صلاة العصر بالرحبة. .....اقتسمت ببيتها مع مُعلم مؤقت كان مدرسا بالبلد زمنا طويلا ، ودخلت إدارة تلو أخرى من أجل السعي في ترسيمه، وعمّر طويلا ثم رحل نحو تطوان والبقاء لله..... ، وبقيت في بيتها وحيدة دون أبناء ، بعد موت ابنة لها بعد مخاض عسير لم تنفع فيه الرغبة في الحياة شيئا ،فأقسمت للنساء ألا تلد مرة ثانية، فطلقها الشريك في الجسد والروح ، و لم تعاود الزواج إما رغبة أو لم يتقدم أحد لها بعد ... صلاتها وسجودها وركوعها ربها عالم بأمورها في الدنيا والآخرة .. . كُنت من حين لآخر أحمل لها من الغابة بعض الجزَر، واللفت، والملوخية، والكرعة السلاوية الخضراء الطرية ، والوركية، التي يجود بها أبي ، فأُوصل البضاعة، وأدق بابها المشقوق غير المُزكرم، أدفعه دون قوة فينفتح ، لم يكن في المدخل، ما يدل على أن هناك حياة رفيهة، أو شبه متوسطة ،حيث الصمت، يقتل الصمت إلا من طنين أجنحة الذباب، الذي استحلى برودة الزقاق والبهو المظلم .... على اليمين درجها القصير السلالم، تتعثر قدماك فيه في الصعود ، وتهوي بك سلالمه في النزول ، تُفضي بك إلى بيت ذي نافذة وحيدة مطلة على الرحبة وأنادي: خالتي زّى اختصارا للزهرة ، وتقول مَن؟ وأرد: أُوجَرُّو وتأتي مسرعة، وأمنحها ما حملت، دون أن أترك القفة طبعا ،وتقول : مَاني احدى وأرد في الغابة ،وأنصرف.
و قد حدث أن زُرتها مع أبي ذات صباح ،حين استبد بها المرض اللعين، وأعياها الأرق الأليم ، و بان النقيض ظاهرا ملوحا ، فبدت كثمرة محببة في الوحل ، فقلت: ربما رحلة الروح بدأت تحوم ،ومن صميم القلب دعوت لها الشفاء ،حيث حز في نفسي منظرها ،وقامت وزغردت قائلة : جَرو نُو ولم أفكر أبدا لِما هذا الجود في الكلام إلا مؤخرا، حين استأنفت النبش في النبش ، رغم خطورة الفعل ، لأعرف حكايتها ، فأدركت أنها رجدالية الأصل ،و عزة دم النسب تسري في عروقها، لأنه الحماية والأصل والمفصل زمن الغلابة ....حنت المسكينة خالتي زى ، للنبع والأهل والتاريخ ، لأن البنيان المتين يشد بعضه بعضا ليستقيم ليُعمر ،ويطول أمد تخليده في الزمان والمكان .
زا باعسين هي المرأة الحديدية الراعية والمُعيلة لنفسها ،وهي المقررة في الأكل والشراب ، تستطيع لوحدها مخالطة الرجال، في المجلس، والحكي ، وهي زرقاء اليمامة في حدة البصر، وهي حذام زمانها ،والقول ما قالته حذامِ ، لا ينفلت من حديثها أحد ، عيناها دوما مكحلتين، نحيلة الجسم كثيرا ، قاسية الملامح، فم متسع، ترتدي ثوبا أسود ، وتحتية منقطة بالأخضر ، مفتوحة قليلا في قُفل الصدر ، تمسك بين أصابع يدها مسبحا لامعا ، رداؤها أسود ترتدي" اكوربين" أو" بلْغة" النساء دائما ، لم يحدث أن رأيتها ذات يوم مكشوفة الرأس ، أو دون" احروي" الأسود ، وينتابني كلما رأيتها إحساس قوي مفاده: أن ثمة فارق مبهم ،غامض ،يشوش التطابق بين الصورة وشدة الاهتمام ،وهذا الفارق هو الذي يُعجِز المشاهد ، في القبض على حدثه لتحديده،.... عَرف عنها الناس أشياء عديدة إيجابا وسلبا ،وقد تُعير المرأة ابنتها بأنها ازى باعسين، حيث كانت رحمة الله عليها كثيرة الكلام مزاحا، تمزج الحديث بالنوادر، والجد بالهزل ،وتربط الحديث بالأصل والنسب ، تنتقل للسوق بمعية أهل الإحسان ،الذين يملكون دراجة نارية أو عادية أوسيارة، أو حتى دابة، المهم أن تصل للسوق راكبة، لتطرق المؤسسات الحكومية،. تتيه فيها ، لبعض الوقت .... وهي فيلسوفة مَشّاءة ، مُهاجرة في كل الأماكن ، تطرق مكاتب الأشخاص، ذوي الولاءات والانتماءات والمصالح ،تبحث عن حصتها في المجتمع ، في الوقت الذي تغرق فيه البلدة في البداوة . وتجلس بباب السوق بجانب محمد أوعلي صاحب الصنك كما نسميه، وهم أهل اللحياني حاليا تسمية ونسبا . كان لها أخ اسمه بوعصام، وكان قليل البصر، وكان يحرس هاتف الاستعمار بالمجلس ، الذي كان مكانا لمحكمة النصارى أذلهم الله ،يُذلون فيه العباد ويقطعون بحكمهم الجائر الرقاب ،الآن هُدم وبُنيت مكانه المدارس الاصطناعية المركبة، وحسب حكاية أخ لي هو الأكبر، فبوعصام عندما كانت تضيق به الوحدة بمجلسه، ياتي بيتنا القديم بأطراز ،يحمل معه بعض القطع من السكر رغبة في مجلس الشاي ، ويعرف جيدا كيف يدبر تنظيم حطب التدفئة، رُزْمات صغيرة، فيُطعم النار في موقدها بالتقسيط، فيطول أمد الجلوس ليلا ، فلا النار نارا، ولا التدفئة تدفئة، والجلسة بين البرودة والدفء ممتدة وطائلة. ...كانت علاقته مع اخته زّى غير طبيعية ،أصيب ببعض الحمق، وصعد إلى بُرج البلدة الذي يسكنه الآن، هل الحاج عبد الله، بجوار نخلة لَمْكزرة وقفز منه إلى الأرض، ورمى بنفسه، أو رمته نفسه انتقاما من لعنة القدر، وغضب الطبيعة وشُح الزمان ، وكُسِّر ساقه وحمله أبي على حماره، حتى البيت، وربطوه بأربعة أوتاد حتى لا يتحرك " وجبّروه " ولما أحس ببعض الشفاء، حرر نفسه من القيود والأصفاد، وغافل السفاح وأهل البيت وخرج وقصد مجلسه من جديد .
زى باعسين حان وقت رحيلها كباقي أعمدة البلاد، ماتت فوق مسرح الأحداث والأقدار والعبث ، ذات ليلة ، ماتت وحيدة دون أن يدرك أحد سكرات موتها ، فتح الجيران الأحباب البيت فوجدوها مكومة ، ميتة ،منكمشة فوق فراش خشن صلب لا نعومة فيه ككومة قش مهملة تحت عش نخلة مهجورة ،بعد ألم شديد لم ينفعها فيه أحد... متى وكيف الله اعلم بحالها ...أحلامها صارت حبرا على غير ورق،أهلها ربما صاروا لفرط موتهم رِمما ، لم ندْرِ هل كانت تحس بهول الرحيل قبل أن تقع أم ذاك رغبة من القدر ..ماتت وبقي الجحيم للجحيم ،...فكلما هوى جدار قام في مكانه جدار ، لكن كلما مات إنسان ينتهي إحصاؤه ويسقط من اللوائح ، ونبقى نحن على لائحة الانتظار أرقاما ننتظر دورنا لنحجز لحْدا في مقبرة قديمة في أطراف البلدة، بجانب الطريق ..... إنها دنيا الفناء والهوام تسحق الأقوياء والضعفاء والغرباء والكرماء والجبناء ،وأهل النسب والعد والوضع والوضيع ،و حين تخوننا دقات القلب وتتوقف ، نخلد للنوم الأبدي ، ونترك الفِراخ للريح والمطر، فالبداية والنهاية ليست لنا ، والعد والتعداد ،عمليات جوفاء .... ماتت المرأة المسكينة ، ولم تترك ولدا صالحا يدعو لها أو علما ينتفع به ، وإنما تركت الخنافس تأكل الخنافس والعناكب تقتل العناكب، وما ملكت من متاع دنيوي نذرته لمسجد البلدة ،فلم ينقطع عملها بالدنيا لأن فعلها صدقة جارية ..
ضاعت أيام خالتي زى في الكلام ،ومدِّ " ارْحُو" للناس الذين يقللون من شأنها ...ظلت وأمست لا تُحصي لحظات القهر التي وشمت ذاكرتها ،... سجنها الزمن بين الجدران،... وكل شعرة في مفرق رأسها تحكي أنها لم تُصلِّ ولم تركع للدهر .....ساعات طوال من القلق والفوضى والتخبط ،... نوم متقطع واستيقاظ ، وغضب ،.... تحسب الزمان وفي كل مرة تخطئ العد ، فتعيد الكرة من جديد ، فلا تسعفها الذاكرة ......،أخذ الزمان كل عمرها ولم تجد لمن تقدم أوراقها ، فسقطت الواحدة بعد الواحدة . ذهبت مغمضة العينين إلى المجهول ....حزمت أمرها وغادرت.... فنسيت معنى الرجوع للحياة لأن الزمن لا يتكرر .. ماتت خاسرة في منظور العقلاء... فربما لا يترحم عليها أحد وقبرها لا يزوره أحد... ، وحيدة في الدنيا وفي المقبرة ... إنها شهيدة المأساة والتجواب والترحال على السفوح من مكان لآخر.. هاجرت كما تُهاجر الأصوات والطيور والثورات والأموال والأدمغة ... أجَّلها الزمان مرارا، وها هي الآن في بحر من السواد، تغمض عينيها للكارثة ، وقد حانت رحلة الأرواح وبدأت وليمة الديدان... إنها علاقة صدامية مع الزمن .في بلدة بناياتها ليست طينية فحسب ، بل هي علاقات رمزية واجتماعية ممتعة ومؤنسة و متوترة ...شعور شرس أحيانا، ومتلائم وهادن أحيانا أخر .فاحمدوا الله على نعمه وصلوا لربكم ركعتين كلما شرقت شمس يوم جديد، وأستغفر الله إن قلت إن زمننا زمن الصخر في العلاقات وزمن الحجر والحجز والنسيان،.فإن سقيت جذور التين بماء الحنظل، ستجني منها التنين طبعا ، وإن سقيت جذور الكروم بماء العلقم ستجني منها ثريات وعناقيد من العنب، لكن إذا سقيت الإنسان بكوثر دمك فلن تجني منه غير المكر والغدر والتيه والنسيان ...اللهم ارحم ضعفنا واسق عبادك وبهيمتك.،وانشر رحمتك واحيي بلدك الميت... والسلام عليكم وإلى موضوع آخر .