ذ:زايد جرو . ....ولدت كما يولد جميع الناس بمكان سماه الكثير بالمغرب الثاني الذي ينتج الأخلاق العالية والنفوس العزيزة ولا يساهم حسب زعمهم في اقتصاد البلاد وتنمية العباد،زغردت الأم ثلاث انتشاء وفرحة لكون مولودها ذكرا حيث تحرم من ذلك المولودات من جنس الإناث في بلدي،لم يشأ لي القدر ولا لغيري أن أختار إسما لي حتى لا أكون ممن تم اختيار أسماء لهم بعيدة عن مسمياتها كاسم نبيل وهو مخادع وعهد ولا توفي بالعهد وإسم صالح وهو طالح،اختاروا لي إسما عربيا أصيلا هو عُدَيْ بضم العين وفتح الدال ولكون أهلي وجيراني وكل المقربين وكل المبعدين غير متفقهين في اللغة العربية أصبحت أنادى باسمي عَدِّي بفتح العين وتشديد الدال بالكسر ومن هنا بدأت رحلة المتاعب.....، ولجت الصفوف المدرسية في مدرسة طينية اختلطت فيها المستويات ولا يعرف معلمنا (لحبيب) شيئا اسمه الأهداف ولا الكفايات ولا بيداغوجية الإدماج لكنه كان يعرف الأخلاق النبيلة والسلوكات العالية، أجلسني في مؤخرة الصف لقامتي الطويلة رغم أني أنفعه في مسح اللوح الأسود الذي لا يكلفني قفزا من أجل مسح تاريخ اليوم
السابق،أعجبني المعلم الكبير في السن والكبير في التعامل من خلال وقوفه على صورة غلاف إقرأ للكاتب بوكماخ ذكره الله بخير: صورة متعلمة أنيقة وصورة متعلم إلى جانبها، فحفر المنظر أخدودا في ذاكرتي يصعب نسيانه على الدوام،فمنذ ذلك الحين وُشمت في ذاكرتي صورة المعلم المتسامح الأنيق.... في يوم الجمعة يهل علينا بلباسه الأبيض، يرفض كلمة صباح الخير لأنها إرث من النصارى، أذلهم الله، ويلح على جملة التسليم كاملة نرددها بصوت واحد لزرع قيم السلام والتسامح كالنشيد الوطني الذي تهتز له مشاعرنا وعواطفنا أثناء ترديده،خلاف اليوم، فالمتعلم لا يسلم ولا يصبح بل يهل ويلعن ويشتم على بكرة الصباح... على أي،تمنيت من كل قلبي أن أكون معلما لألبس الأبيض في الأبيض،كانت الدراسة سهلة يسيرة في المستوى الأول وكنت على الدوام الأول،بدأت شيطنتي منذ الصغر ومنذ بداية الصلاة مع معلمنا أتذكره يؤذن لصلاة العصر يجتمع الكل، يقيم الصلاة، نصلي خلفه بدون وضوء ويركع ونجعل منه أضحوكة، نلهو ونعبث كالقردة بالنعال البالية يقرأ صاحبنا سورة الفاتحة لكننا لا نعرف أكان يقرأها بادئا أم معيدا، نضحك من مؤخرته الكبيرة والغليظة التي تشبه مؤخرة خالتنا(حُوگة) (Hougga) عيناها في الحدة كالبومة تحرس القلاع المنيعة وتتطاير من نظراتها البركة، أسنانها قصيرة حادة كالفأرة وهي المعروفة بثقل تنقلها في البلدة وكانت تمشي الهوينى كما يمشي الوجى الوحل وكانت مشيتها من بيتها لبيت جاراتها مر السحابة لا ريث ولا عجل...استمر الزمن في السيرورة وفزت في جميع المراحل التعليمية ونلت جميع الجوائز، وانتهى التعليم الثانوي بالنجاح لا بالتفوق،وأخيرا دخلت مدرسة المعلمين ضحكت على حد اتساع فمي ومن كل قلبي، فرحا، لأنني سأربي جيلا صالحا أنشئه على الأخلاق الفاضلة والمناعة الحصينة..... زغردت الأم من جديد بقريتنا لأنني سأصبح معلم صبيان لكنها لم تعرف ما قاله الجاحظ في شأنه: ثلاثة أصناف من الناس تصعب معاشرتهم ولا يمكن الاستفادة منهم ولا علم لهم بأي حال من الأحوال:معلم الصبيان، راعي الغنم، وجليس النساء....نصطف بباب الداخلية وكل منا يرتدي وزرة بيضاء أنيقة المنظر ذكرتني بالدجاج الأبيض الذي يقأقئ بدكان الجزار وكل دجاجة تنتظر ساعة الذبح وليس لها اختيار، ورغم ذلك تجتمع حول الطعام المتاح، وذكرني المشهد أيضا ببائعي( سكوك )على الطريق الرابط بين مكناس والخميسات أو بين فاسومكناس... انتهى زمن التكوين كالبرق الخاطف......فعاد إسمي من جديد ليضايقني،وحضر معي بشدة ساعة تعييني في إحدى الجبال العالية رجالها ونساؤها لا يتواصلون إلا بالعربية.......... ...... تأخرت التعيينات كعادتها، واجتمع رجال القرية واكتروا شاحنة من نوع (فورد) وتكوموا فيها جميعا حتى مكتب السيد القائد، لا ذكره الله بخير.. أخبرهم بان المعلم عدي،سيأتي وعادوا جاعلين من اسمي نكتة وهزءا كما حكى لي بعضهم، فقال المفلح منهم سيأتي المعلم بالصح والصحيح، أما هذا فهو عَدي بمعنى ( (عدي بالشلح......) اهتزت الأرض وأصابني دوران كبير وغم عظيم منذ أول يوم أنا (شلح) نعم وأعتز بذلك لكن ما تبقى من العبارة والذي لم أستطع كتابته حتى بالحروف، هو الجرح الكبير.....مرت السنون وهم ينتظرون المعلم الصحيح فجثوت على أعناقهم أتطاول في المشي ولا أحد ينبس بكلمة لأنني أقوم بالواجب وأكثر من الواجب.... طال بي الزمان أصبح أسبوعي ثمانية أيام وشهري ستة أسابع، وعامي ( 14) شهرا لا أدري كم مر من الزمن وهل مر أطوله أو أقصره....شدني الحنين لدفئ بلدتي وإيمي نيغرم والتجمع بعد العشاء وحفلات إمديازن في الرحبة قرب دار با موح القديمة إلى جوار الزا باعسين وعبد الرحمان الخراز......دخلت مرحلة الإنجاب وقلت لا يجب أن أكون فقيرا حتى في الأولاد: واحد يخلد نفسه بالعلم والآخر بالمال والأخر بالبنيان.... أما أنا فقد قررت تخليد نفسي بكثرة الإنجاب: جاء الأول، وحمدت الله، وجاء الثاني فشكرت الله وجاء الثالث فكررت الحمد طبعا... والرابع..ثم الخامس. والكل عطية من الله...فوضعت لهم الأرقام واختزلت أسماءهم في جداول الضرب الذي أتقن مع الصبيان....دخلت المدينة ليتابع الأبناء الدراسة وبدأت المشكلة من جديد متاعب التواصل وواجبات الدراسة والكراء والملابس، بعت بعض الحلي،وسحبت كل نقودي المودعة بصندوق سموه التوفير، اشتريت بعض الأثاث البالية، وما انتبهت إلى قدمها المتزايد إلا بعد تنظيفها حيث البق كالفول حجما إن جهلت به،وعشه في فراشي هذه المرة لا في فراش المطعم البلدي.....تنتهي الحوالة في الطريق قبل الوصول، أبنائي الصغار يلهثون وراء السياح أتقنوا اللغة الفرنسة تواصلا يبيعون لهم أي شيء... إلا الوطن.... وتراب الوطن.... ويأكلون ما تبقى من طعامهم... أيقنت أن سعادتي لا يجب أن تكون في تسلسل أعداد الأبناء. كانت نفسي قنوعة وجسمي سعيد لأنني حققت ما حلمت به تحت الإرادة،لم أقف يوما بجانب إدارة أو برلمان أُصفق وأردد الشعارات أستجدي بها اللئام،وألحس أرجلهم من أجل كسرة خبز أوحفنة رز.... أجلس في المقهى إلى جانب الأكواب الفارغة درءا لأعين العاذلين حيث الريح تطارد الريح، والبرد يطارد البرد، والحزن فيها غريب ومنكسر النفس، أمُد يدي إلى ملابسي الداخلية فتضيع أصابعي بين الثقب ويا ما قرأت من عبارة القرآن الكريم (ادعوني أستجب لكم) فاستجاب الله لرجائي ووهبني الصحة والعافية والأبناء، فحركت كل ما في قلبي من إيمان وتحملت،وصبرت،وتوجهت من جديد إلى الله بكل ما أقدر من الخشوع فسمعت مناديا هاتفا يقول :إن أغلب الرجاء طمع وأن بعض الدعاء جحود، أطرق برأسي ذليلا وكأنني بين الأوحال فلا أحد غير عويل الذئاب، عينان تتكلمان بالحزن، يهتز رأسي لا طربا بل عجبا وحسرة،لأنني رضيت بحياة راكدة فعشت أخرس منهزما كالمسمار أجتر بالليل ما أكلته في النهار كالإبل، وصرت وحيدا أقوم ظهري المنحني وأرفع رأسي المثقل بالهموم، عبء يجثم على الصدر أهرب من الناس وأكاد أجن (بالضم)لوحدتي أمشي متثاقلا متخاذلا منحلا بومضات ذابلة وخفقات قلب غير منتظمة تصعد وتنزل حسب درجات خيالي الاسترجاعي، فسخرت من نفسي بشكل مقيت،أصطنع الفكاهة بكل الطرق..وأضحك من نفسي بكل مضاضة وأقول :إيه يا زمان عدي بن فلان بن فلان الذي لا تقضى أمور إمغارن إلا بمشورة أبيه تنتهي حياته، كأي بهلوان عنزه أبدا حائل وتيسه حلوب، والدنيا -يا أعز من نفسي- في زمن الرداءة لا تعطي سائبة إلا للماجن والمخاتل والمنافق...يسألني النادل :ماذا تشرب يا أستاذ، أردد الكلمة أتلذذ بها بيني وبين نفسي، وكم هي جميلة يا إخوتي وأخواتي، تزرع في وجداني الانتشاء والعظمة ولو لثوان، وأستحضر عبارة (كاد المعلم.....).... وأقول له على التو، والله شربت في البيت كل الأشياء: الباردة،والدافئة،والحلوة، والمرة، وإنني أنتظر فقط صديقي لنذهب معا للمسجد لأداء صلاة المغرب.....انتهى حلمي بأن أكون معلما وتمنيت لو أعود القهقرى مرة ثانية لأحلم بشيء آخر غير مهنتي.. فاستيقظت من غفوتي فسألت العقل في صحوته ما الحلم : فأجابني بإيجاز دقيق : ما الحلم إلا الحياة وما الصحو إلا رؤى في المنام......يا أعزائي الصغار، والكبار.... والمتوسطون، قد كتبت الكلام مضطرا، فبين الدمعة والفكرة تنبع المفارقة التي تتولد عنها البسمة، والشفقة، لتطهير الجوهر النفيس، من المعدن الخسيس، لتستمر الحياة بجميلها وذميمها لكنها الدنيا والسلام. ...... أخي القارئ: إذا كنت نائما وحلمت في حلمك بأنك تحلم واستيقظت من حلمك، ووجدت نفسك، ما زلت تحلم ماذا أضعت ردد معي إن الشمس تجري...ولنودع الحياة بوجه مشرق فيه نبل كل الصفات رغم المصائد والمصائب، والمظالم، لأننا في بلد لا نفرق فيه تحت وطأة الحياة بين الحدائق والمزابل. إضاءة: القارئ الكريم :حلمي قصة ورقية تخييلية لا أقصد بها لا نفسي.. ولا أنت... ولا أي شخص آخر.... فإذا وقع صدفة وتطابقت الأحداث معك أو مع أي قارئ مفترض، فإنني أطلب الصفح والعفو، ولا تكن قاسي القلب وأشفق على حلمي فربما يكون حلمك أفظع من حلمي.........مع التحية.