إن الربيع العربي الذي لا تزال وروده تُزهر يوما بعد يوم،سقاؤها دماء الشهداء الطّاهرة التي ما فتأت تهدر كل يوم ,ليس من قبل عدوّ لطالما عَلِمناه وعلِمنا خُبثه ؛ولكن – للأسف – من طرف ابن جلدتنا الذي شرب من ماء ذات الوطن ، وتظلل تحت سماء ذات الوطن ، ربيع لا تزال ناره تأكل العروش المتهالكة والبالية التي كان دوما وقودها البطش و القهر و القمع الذي تجاوز كل الحدود.. أقول : إن هذا الربيع المبارك قد أثلج صدورنا وأعاد إلينا الثقة في هذه الأمة التي طالت معاناتها وأُجلت أحلامها لعقود . وبقدر ما أفرحتنا الثورات العربية، التي جعلتنا نعيد النظر في قناعاتنا في جدوى القمع وقوته ، وبضعف الشعوب المغلوبة على أمرها – بالقدر نفسه أيضا، أحزننا وقضّ مضاجعنا ما حصدته آلة القمع من أرواح لشباب في زهرة العمر، وأطفال ونساء و شيوخ ، جرّاء القمع والبطش المبالغ فيه من قبل الحكام وأدوات تسلطهم . أقول هذا الكلام لأذكر نفسي و القارئ الكريم بأن ثمن الحرية غال ، ولا يمكن قياسه بأية عملة سوى عملة الدم في بورصة التضحية و البذل ، ثم لنقول : إنه كلما كانت التضحية أكبر ، كان القطاف أكثر وأوفر. إن المتتبع لشريط الثورات العربية المباركة، يلاحظ أنها وعلى الرغم من اختلاف أقطارها وأنظمتها وأساليبها، تلتقي في قواسم مشتركة كثيرة تجعلها تتشابه إلى حد كبير ، يمكن اختزالها في أربعة قواسم، نقوم بتقديمها في هذا المقام كما يلي : 1- تفاجؤ الأنظمة بالثورات إن الأنظمة العربية كلها و بدون استثناء – ولعقود طويلة – اعتبرت نفسها في منأى عن أي هزّات أو مُنَغّصات يمكن أن تشكل تهديدا لوجودها واستمرارها في السلطة ، أو حتى مجرد تقاسمها لهذه السلطة مع طرف آخر من الشعب ، يأتي هذا الاعتبار من قناعة هذه الأنظمة بجدوى ما مارسته لعقود طويلة من قمع وتدجين على شعوبها، جربت فيه كل ما استجد في عالم التضليل الإعلامي والتّدجين السياسي و الاجتماعي والتمييع الثقافي بكل تلويناته من شعر ونثر وموسيقى ومسرح ، عبر التلفازات الرسمية والبرامج التربوية المُعدّة على مقاس الحاكم ،كما توّسلت إلى ذلك بكل ما أوتيت من قوة الحديد والعسكر وجيش من المخبرين والعملاء وأشياء أخرى يضيق المجال هنا لذكرها . كل هذه الممارسات القمعية المُمَنهَجَة ، خلقت لدى الناس - ولوقت طويل - شعورا بالخوف و التوَجُّس من كل شيء حتى بين الأخ و أخيه والوالد وابنه، بل خلقت لدى المواطن العربي إحساسا بالإحباط والدناءة،إلى حد اعتبر نفسه معه مجرد فرد غير ذي قيمة أو جدوى،أدى هذا الإحساس في حالات كثيرة إلى الانزواء والانكفاء و التقوقع على الذات، والدخول في مسار لا متناهي من السلبية والعدمية المؤدية إلى ما يمكن تسميته "بالسُّبات الحَياتي" . هذا الجو الذي خلقته الأنظمة ، جعلها تستبعد أي تحرك شعبي قد يُضر بمصالحها، الشيء الذي جعلها تُفاجأ ، بل تستغرب مما جرى و يجري ، وتكاد لا تصدق و- معها الغرب – أن هؤلاء الذين لطالما اعتبرتهم مجرد أوباش و رَعاع ، ينازعونها السلطة ، بل ويجهرون بذلك في الشوارع و السّاحات، يواجهون من أجل ذلك الموت الذي يتربص بهم في كل مكان.ولا نُخالف الصّواب إذا قلنا أيضا : إن الثورات العربية قد فاجأت حتى المفكرين و المثقفين الأشد تفاؤلا ، بل وفاجأت معظم الفئات الشعبية نفسها والتي لم تصدق ما ترى قبل أن تَنْظَم إلى المظاهرات الشعبية بالشوارع و الساحات. وقد كان عنصر المفاجئة هذا من أهم أسباب نجاحها ، وأخطر أسلحتها التي لم تحسب له الأنظمة الحاكمة الحساب الصحيح ، فقد بعثر جميع أوراقها وترتيباتها " الأمنية " و القمعية إلى حدّ أضحت معه هذه الترتيبات عنصرا رئيسا ليس في إخماد الثورات، بل عاملا هامّا في تأجيجها وصب الزيت عليها، لتأتي بعد ذلك على كل ما تجده في طريقها . 2- قمع التّظاهرات السّلمية لقد جربت الأنظمة العربية الحاكمة القمع بمختلف أساليبه في إخماد الانتفاضات العربية خلال عقود حكمها السابقة، وقد كان القمع و الترهيب – إلى حد ما – فعّالاً في ذلك ، واستطاعت هذه الأنظمة تمديد فترة بقاءها في السلطة إلى حد الآن ،غير أن الوضع الآن قد تغير بالمراعاة إلى الوضع المحلي الحساس والدقيق ، والوضع العربي المتردي، والمحيط الدولي المأزوم ، وبالنظر أيضا إلى التغيير الجوهري الذي طال الذهنية العربية، وما أصبح عليه الشباب العربي من وعي و انفتاح على الآخر، ولّد لديه الإحساس العميق بالنقص و الحرمان والقهر، الشيء الذي بدأ معه جدار الخوف – الذي أطبق على النفوس والأفئدة - يتداعى شيئا فشيئا ، لكن الأنظمة لم تعي ذلك التحول و لم تفطن إليه، وكان هذا من أهم أسباب سقوطها وانهيارها . ولقد سارعت الأنظمة البائدة كلها إلى قمع المتظاهرين الغاضبين منذ الوهلة الأولى في كل الثورات العربية ، ونَعْتِهِم بكل نعوت التحقير و التَبخيس والتخوين و الفوضوية، هذا بدلا من الإنصات إلى صوت الشارع الذي لم يعُد في الإمكان كتمه أو صَمّ الآذان عنه . إن هذه الأنظمة البائدة ،اعتقدت لوقت طويل، أن القمع و التقتيل هو السبيل الأجدى لإسكات الحناجر في الشوارع، ولإرجاع الناس إلى بيوتهم مَذعورين وقانعين بالقليل من الوعود الكاذبة و الشعارات الزائفة بالعدالة والحرية و الكرامة ، بل كان القمع هو الحافز الأهم في صمود الجماهير، والوقود الذي ألهب الثورات لتحرق الأرض تحت أقدام الطغاة، بل كان كلما زادت الأنظمة من قمعها ، وازدادت قوافل الشهداء وازداد حجم الدّماء، إلاّ وتقلصت فرص الطغاة في البقاء في الحكم ، وازدادت الشعوب تمسكا بمطالبها المشروعة في التغيير و العيش الكريم،فقد كان القمع بمثابة الرصاصة التي تَرْتَدُّ إلى صدر صاحبها. 3- الصّمت العربي لقد كان الصمت العربي المُشين أهم العلامات البارزة خلال الثورات الشعبية العربية، سواء على مستوى الحكومات أو الأحزاب ، وكذا وكالات الأنباء ومحطات الأخبار الرسمية وغير الرسمية، فقد كان على ثوار تونس الصّمود في وجه الطاغية بن علي و آلته البوليسية ، والانتظار ما يقارب الشهر والنصف شهر لتلتفت إليهم المحطات الإخبارية العربية و الدولية، فلم نعد نسمع عن الانتفاضة التونسية في بعض الفضائيات العربية " وخاصة الجزيرة و العربية" إلا بعد أن وصلت المظاهرات إلى تونس العاصمة ، وبعد أن كان للشباب اليد الطولى في فك العزلة الإعلامية عن ثورتهم التي مافتئ النظام يحاول التعتيم عليها..لقد استطاع الشباب التونسي فك العزلة و إبلاغ العالم بما يجري على الأرض بفضل حسن استعماله لتكنولوجيا الإعلام و التواصل على شبكة الإنترنيت ، وبفضل آلات التصوير الشخصية و الهواتف النقالة ،أما ما قامت به الفضائيات العربية – وفي مقدمتها الجزيرة و العربية – فقد جاء بعد ذلك، دون أن يُنقص هذا – طبعا - من دورهما الرائد في مواكبة الثورات العربية الأخرى، ويبدو أنهما قد استفادتا من أخطائهما خلال ثورة تونس، وتداركتا الأمر في باقي الثورات فيما بعد. أما باقي الإعلام العربي الرسمي و غير الرسمي بمختلف تشكيلاته، فقد ظلّ بعيدا عن الربيع العربي إلاّ فيما نذر. أما الحكومات العربية ،فقد تفادت بكل الطرق الحديث عن الثورات العربية وأسبابها، وعن القمع المسلط عليها، و ظلّت مواقفها تتأرجح بين التملق و الدبلوماسية المُنافقة ، خشية توتر علاقاتها مع تلك الأنظمة الآيلة للسقوط ،ومخافة أن تكون هي أيضا في مهبّ ريح الغضب العربي، ثم لأنها هي أيضا لا تقف على أرض صلبة تمكنها من الوقوف من جرائم الحكام الموقف الصحيح المنحاز إلى إرادة الشعوب. هذا الصمت العربي القبيح، يبرر إلى أي حد كانت هذه الأنظمة مرتبطة بعضا ببعض، تنسق فيما بينها وتتبادل المعلومات و الخبرات في آليات ضبط الأوضاع فيما يخدم مصالحها، وفي الأساليب الناجعة في تركيع وإخضاع الشعوب وإسكات أي صوت يخرج عن " الإجماع المفروض" . فكيف ننتظر من هذه الأنظمة أن تنحاز إلى الشعوب وهي كلها تُعاكس إرادة شعوبها، وآمالها في الكرامة والحرية !! 4- التخاذل الغربي المفضوح لقد أظهر الربيع العربي مدى عمالة الأنظمة العربية للغرب وتبعيتها له،بما في ذلك روسيا و الصين، بالقدر الذي أظهر سعي هذا الغرب إلى حماية هذه الأنظمة بعد أن دعمها لعقود طويلة ،رغما عن إرادة شعوبها الطامحة إلى الحرية و الكرامة و العدالة، الشيء الذي كشف عن زيف شعاراته الرنّانة عن الديمقراطية و الحرية و التمدّن . وظهر للجميع أن هذه الدول التي تشكل ما يدّعون أنه "عالم حر" هي أو أول من يعادي الحرية و العدالة، وأول من يساند الحكم الكُلّي، بل إن هذا العالم المُسمى "حُرّا" هو من خلق هذه الأنظمة الطاغية، ومدّها بكل وسائل القوة و التجبّر.. وقد ظهر على الغرب ومن معه – خلال الثورتين التونسية و المصرية – التباطؤ الشديد في ردّة الفعل اتجاه القمع المبالغ فيه الذي مورس على المتظاهرين ، واستنكافه عن التحرك لحماية الشعوب من بطش حكامها .. وإن كان قد تكشَّف في ثورة تونس النّفاق الفرنسي ،فقد أظهرت ثورة مصر الخذلان والنفاق الأمريكي البغيض؛ بل حتى في الثورة الليبية، فقد كان التحرك الغربي عموما مشوبا بالحذر والريبة، حيث راهن على عامل الوقت لعل العقيد يحسم الأمر لصالحه، ولم يتدخل الغرب الممثل في حلف "النيتو" إلاّ بعدما اطمأن إلى طبيعة الثوار وتوجهاتهم العقدية و السياسية، بل ربما بعد أن أخذ عليهم عهدا بالحفاظ على مصالح الغرب الإستراتيجية، وكذا على طبيعة الحكم الذي سيحل بديلا عن حكم العقيد .. بل إن أمريكا، راعية الديمقراطية في العالم، وحامية الشعوب المضطهدة، لم تشأ أن " تورط" نفسها في حرب لازالت لم تتضح معالمها وآفاقها بعد ، واكتفت بإرسال طائرات بدون طيّار إلى جانب بوارج "النيتو" خشية تكرار تجربتها الفاشلة في الصومال و أفغانستان، ولم يتبلور الموقف الأمريكي إلاّ بعدما بدأت الأمور تؤول إلى الثوار على الأرض،أما ثنائي الشّر " روسيا والصين" ، فلم تتوانيا في معاكسة إرادة الشعوب المنتفضة، بل وحالتا أكثر من مرة دون اتفاق مجلس الأمن على اتخاذ موقف موحد ضد القمع والقتل الذي يطال المواطن العربي من قبل حكامه ، وكان آخرها "الفيتو" المشترك ضد مشروع قرار يدين نظام الأسد وزبانيته ، ويكُفَّ يده عن تقتيل شعبه. أما في اليمن ، فقد أطلق الغرب يد عبد الله صالح ليعيث في أبناء شعبه تقتيلا وتنكيلا دون أية محاسبة أو محاكمة ، مما شكل سابقة خطيرة في العرف الدولي، قد تتيح مستقبلا للحكام مشروعية قتل الناس وإمكانية الإفلات من العقاب . إن كل ما قيل عن ثورات هذه البلدان ، فإنه ينطبق على انتفاضة البحرين، التي سقط خلالها العشرات من القتلى والمئات من الجرحى، دون أن ينطق الغرب المنافق والعرب المتواطئون ببنت شَفَة، ولم يتحرك الحكام العرب إلاّ لينحازوا إلى جانب الحاكم ضدّ الشعب، حفاظا على مصالحهم الخاصة، رغم ما يبدو على انتفاضة البحرين من بعض معالم الطائفية و العرقية ، ولهذا حديث آخر بحول الله. أرفود بتاريخ 17-02-2012