تثير اللعَب التي تغزو أسواق بلادنا، خاصة في عاشوراء، الكثير من الشكوك حول دورها التعليمي/التربوي، وحتى حول خطورتها، أحيانا على صحة الأطفال. فبالإضافة إلى جاهزيتها وعدم مشاركة الطفل في "صنعها"، فإن الكثير منها، المستورد من دول آسيوية خاصة (الصين، كوريا، هونكونغ...)، تشكل خطرا على الأطفال بحكم المواد الكيماوية والسامة والبلاستيكية التي تدخل في تركيب الكثير منها، ناهيك عما تمثله العديد منها، من نماذج ورموز تحيل على العنف (أدوات الحرب من مسدسات ومفرقعات ومدافع وصواريخ...) أو بعض الأيقونات الغريبة عن ثقافتنا وقيمنا (دمية باربي، بابا نويل، البوكيمون..) أما مضاعفات ألعاب الكومبيوتر والبرمجيات والأنترنت و"البلاي ستيشن"... التي يقضي أمامها أبناؤنا الساعات الطوال، متسمرين أمام شاشاتها، دون حراك، منقطعين عن العالم، منعزلين عن محيطهم الاجتماعي، فحدث عنها ولا حرج. فألا يدفع مثل هذا الوضع إلى تأمل الألعاب التقليدية الشعبية ببلادنا التي اندثر معظمها والقليل الباقي منها في طريق الاندثار، إلى استنطاقها واستكشاف ما يمكن أن نستخلصه منها، من حيث الدلالة والتعبير عن الهوية، والاستفادة لإغناء ألعاب أبنائنا وبناتنا في حياتهم المعاصرة المُعَوْلمة هذه التي تمطرهم بسيل رخيص وغال من الألعاب التي لا يزيد أغلبها إلا في استلابهم وغربتهم عن شخصيتهم وهويتهم وثقافتهم الأصيلة؟ الألعاب التقليدية الشعبية جزء من الثقافة الشعبية التي تتعدد تمظهراتها وتجلياتها في حياة الإنسان الشعبي: الموروث الشفوي والأهازيج والأغاني، والمعمار والعادات الغذائية وأدواتها، وطقوس الاحتفالات الشعبية والدينية، والأزجال والأشعار والأحاجي والألغاز والحكايات والأمثال، والألبسة والحلي، وعادات الأعراس والمآتم، وطقوس المواسم والألعاب... وإذا كانت النخب العالمة المثقفة، طيلة عدة قرون، تنظر إلى تعبيرات الثقافة الشعبية بنوع من التعالي والإهمال وحتى الازدراء، فإن الوقت قد حان للبحث في ذلك الموروث الثقافي الشعبي، وغربلته وتثمينه بشكل جدي، والاعتناء به وإعطائه ما يستحق من عناية واهتمام، لأن الثقافة الشعبية، في واقع الأمر هي المعبر الحقيقي عن شخصيتنا وتميزنا. البحث في الثقافة الشعبية المغربية إذن، بحثٌ في الهوية وخصوصية الشخصية المغربية، ومحاولة لفهم كنه انبنائها وتطورها وتحولها عبر الحقب والأزمنة والعصور، وكيفية إغنائها واستثمارها في الحاضر والمآل، لتفادي التنميط والأحادية والذوبان المطلق وسط الهويات العولمية المعاصرة والمستقبلة. فالاهتمام بالألعاب التقليدية الشعبية، اهتمام إذن بجزء من تلك الثقافة ومن الشخصية المغربية في عمقها الإنساني الشعبي، ويمكن أن يساعد في تعزيز ذلك الفهم، ويبلور بالتالي، جوانب الخصوصية والتميز فيها. واللعب، رغم أنه نشاط ترفيهي، فهو مظهر من مظاهر الثقافة، وجزء منها ، كما سبق الذكر، وتجَلٍّ من تجلياتها، نستشف من خلاله شخصية الفرد ضمن المحددات التي يرسمها المجتمع الذي ينتمي إليه. و"اللعب، بشكل عام، نشاط إنساني (وقد يكون حيوانيا لأن بعض صغار الحيوانات تلعب هي أيضا) حر، فردي أو جماعي، حركي أو ذهني (أو حركي وذهني في نفس الآن)، يُمارَس بمتعة، بدافع داخلي، وليس نتيجة ضغط خارجي". والألعاب التقليدية الشعبية، هي مجموع الألعاب التي كان يمارسها الأطفال والمراهقون (وحتى الكبار)، قديما (وقليل جدا منها ما زال صامدا حتى الآن)، كنشاط ترفيهي حر، والتي هي في طريق الانقراض بفعل ما استجد في عالمنا المعاصر، من ألعاب وأدوات لعبية متنوعة جاهزة أنتجتها ثقافة السوق وتكنولوجيا الاستهلاك. تهم هذه الورقة بعض الجوانب التعليمية/التنشئوية لألعاب منطقة الرشيدية/تافيلالت، إلا أن مضمونها يمكن أن ينسحب على جميع جهات المغرب (مع بعض الاختلافات المرتبطة بمعطيات كل بيئة بيئة). لا يتعلق الأمر بتعليم مباشر ملقن لأطفال المنطقة وممارَس بقصدية عليهم، وإنما يتعلق بنشاط تلقائي متنوع، عفوي غير موجّه، في الغالب، كان الأطفال والمراهقون يمارسونه بحرية واستقلالية، وكان يساهم بكيفية غير مباشرة في تعليمهم وإدماجهم في حياة المجموعة البشرية للمنطقة. فالطفل يتعلم الحياة وهو يلعب، إنه يمارس حياته، يمارس الحياة. ومعلوم أن التعلم يشمل الجوانب الثلاثة الرئيسية للشخصية. *الجانب الجسمي: كان الأطفال بالمنطقة، يتعاطون لمجموعة من الألعاب الحركية المختلفة التي كانت تساهم في نموهم الجسمي، مثل ألعاب السباق والقفز والتسلق والحفر والبناء والرمي والمصارعة والمناولات اليدوية المتنوعة المتعلقة بصنع اللعب ... في الجري كانت "الغميضة"، مثلا، أو "حابا" أو الركض وراء "الكروسة" أو كرة "الأطمار" أو حول سور القصر، أوسباق الفرسان (ركوب العصي أو حتى الحمير أحيانا)... وفي القفز كانت "أللوبرة"، مثلا، وتخطي مجموعة من الأقران وقد انحنوا في صف متراص، أو اللعب بالحبل، أو التباري في تخطي مجرى ماء أو حفرة... وفي التسلق، التنافسُ، مثلا، في صعود صف من أشجار الزيتون أو النخيل، والتنقل من شجرة إلى أخرى دون النزول، إلى حين الوصول إلى آخر شجرة... وفي البناء، الحفرُ بالأدوات الفلاحية المختلفة، وإعداد المواد ثم التباري في بناء الدور والأبراج والسواقي... وهكذا. أما المناولات اليدوية فكانت تهم الصنع الشخصي (وهنا تكمن الأهمية) لمجموعة من اللعب، انطلاقا مما يوفره الوسط من مواد وأدوات وأكسسوارات...: ويتعلق الأمر ببعض الآلات الموسيقية البسيطة (الناي، بواسطة القصب أو الرمان اليابس، والآلات الوترية المصنوعة من عراجين النخل أو صفائح المبيدات الحشرية وخيوط الصنارات، والآلات الجلدية...)، وبعض اللعب الأخرى كالعربات و"الكروسات" و"الدريجات" و الفِخاخ والمقاليع و"النشاشيب" لاصطياد العصافير، و"الفراوط" وكرات الأسمال، و"الكلوتات" (نوع من القفف الصغيرة المصنوعة من سعف النخيل) والعرائس... أما المواد المستعملة، فتتمثل في منتجات النخل ( الجريد والسعف والشوك والعراجين والفدام والبلح وأنوية التمر ...) وشظايا الفخار والأواني الخزفية، والأسلاك والمسامير والأشرطة المطاطية، وحُدوات الدواب، والورق والقصب والعصي والعيدان والأسمال، وعلب الحليب والسردين، وصفائح المبيدات، والخيوط الصوفية والقنب، والتراب والطين والحصى... صحيح أن الألعاب لم تكن مؤطرة بشكل دقيق من قبل مربين اختصاصيين، ولكنها رغم عفويتها وتلقائيتها، كانت تساهم في النمو الجسمي لممارسيها. وقد كانت تمارَس، في الغالب، في الفضاءات الواسعة وفي الهواء الطلق. كما أن اللعَب التي يصنعها الطفل بنفسه، من المواد المحلية الطبيعية، في أغلب الأحيان، لم تكن تشكل أية خطورة عليه وعلى صحته، بعكس بعض المواد الكيماوية والبلاستيكية الضارة التي تدخل في صنع بعض اللعب العصرية الجاهزة. *الجانب العقلي/الابتكاري. يتمظهر هذا الجانب من خلال صنع الطفل للعبته بنفسه. فهو الذي يتصور تصميمها، ويجتهد في تنفيذه. قد يقلد، وقد يبدع ويبتكر، ثم يركب اللعبة: يستكشف محيطه، ويتعرف على مكوناته، بشكل مباشر (الجانب المعرفي)، وليس عن طريق الكتاب المدرسي، ويتلمسها، ويبحث بنفسه عن المواد الخام في ذلك المحيط، ويصنفها وينتقي منها ما يحقق الهدف، فيحولها ويعالجها بأدوات بسيطة من البيئة أيضا، أو يطوع أدواتٍ لتؤدي الغرض، فيكيف فعله ونشاطه حسب ما هو متوفر، معتمدا الملاحظة التلقائية والتجريب وتقليد الكبار لإثبات الذات، والتلمس التجريبي... ويتفنن في تزيين اللعبة وابتكار إضافات تستهويه... وفي كل هذه الأفعال والأنشطة شحذ لقدرات الطفل الذهنية، وتنمية لمهاراته وخياله... وفرَصٌ متنوعة لاكتساب الكفايات الضرورية لنمو شخصيته وخوض غمار حياة الراشدين. وهناك ألعاب شعبية تستدعي التفكير والانتباه واستخدام الذكاء وبعض العمليات الحسابية، مثل تلك الرقعة الشبيهة بالشطرنج والتي تُرسَم على الأرض أو على لوحة خشيية، وتكون البيادق فيها من أنوية التمر والحصى، أو تلك اللعَب التي تعتمد على استعمال الحصى ("الحسة" و"الكروط" و"الحفيرات")... * الجانب الوجداني/ الاجتماعي ينمو هذا الجانب ويتقوى بواسطة تفاعل الطفل مع الأقران ونمط التنشئة الاجتماعية التي تساهم فيها الألعاب التقليدية الشعبية من خلال التعاون مع الأطفال، والتباري والتنافس والتواصل والاندماج في الجماعة، والتقليد والمحاكاة، ومن خلال لعب الأدوار (ألعاب تقليد دور الأب أو الأم أو المعلم أو فقيه القرية أو الملك أو الأمير أو جحا أو العريس والعروسة... وصنع الدمى والتحدث إليها، و"تجهيز" الدار، و"إعداد" الطعام و"خدمة" المدعوين، وركوب العصي على أساس أنها أفراس...) ويكون للألعاب دور في التنتشئة الاجتماعية أيضا، من خلال المساهمة في وضع قانون اللعبة واحترامه والانضباط لمعاييره، مع ما يصاحب كل هذه الأنشطة من انفعالات وتنمية للاتجاهات وتصريف للعواطف ( المحبة، الكره، الغيرة، الخوف، التوتر والقلق، الإحساس بالراحة، الميل إلى جانب دون آخر...) ومثل هذه الأنشطة (الجماعية على الخصوص)، تساهم في تصريف التوترات والطاقات الانفعالية المكبوتة، كما تقوي الانتماء إلى الجماعة، وتساعد على وعي معايير المجتمع وتمييزها، واستبطان منظومة قيمه، في حرية واستقلالية نسبيتين في النشاط، بعيدا عن القواعد الصارمة للكبار، في الغالب. وجميع ذلك يساهم، إلى حد كبير، في نمو الطفل الوجداني/العاطفي/الاجتماعي... ويهيئه، بشكل تدريجي، للتوافق والاندماج بسلاسة في المجتمع، مع اكتساب ما يتطلبه ذلك من كفايات ضرورية تساعد على تحمل المسؤولية في الكبر. والحديث المنفصل هنا عن كل جانب من جوانب الشخصية، على حدة، لا يعني انفصالها في واقع أمر الطفل. إن الشخصية كل لا يتجزأ، والجوانب الثلاثة تتكامل وتتفاعل، وتتبادل التأثير والتأثر، وتنمو بكيفية متزامنة. فالطفل وهو يصنع لعبته يقوم بعدة أفعال حركية أثناء المناولة، كما أنه يلاحظ ويجرب ويقارن ويفكر ويستخدم ذكاءه... وفي نفس الآن ينمي اتجاها نحو اللعبة ونحو أقرانه الذين يشاركونه اللعب، ويفرح حين ينجح في صنيعه، ويتوتر ويغضب حين يفشل وهكذا... إلا أن بعض الألعاب يغلب عليها الجانب الجسماني وبعضها، الجانب العقلي، وبعضها الآخر الجانب الوجداني/العاطفي... مما سبق إذن، يتبين، أن الألعاب التقليدية الشعبية، لم تكن أنشطة جانبية مجانية هزلية هامشية لا قيمة لها، وإنما كانت، على العكس من ذلك، بالنسبة للأطفال، أفعالا جادة تساهم في تعلمهم وتنشئتهم الاجتماعية وتنمية قدراتهم العقلية واستعداداتهم الجسدية، وإكسابهم العديد من المهارات الضرورية لمواجهة تحديات حياة مجتمع القرية أو الحومة التي ينتمون إليها. إنها ألعاب كانت تتمثل فيها العديد من العوامل المنجِحة لفعل التعلم: الاختيار الحر والرغبة الذاتية والاهتمام والمتعة والمرح، والاستجابة لحاجات الطفولة، والمبادرة واستقلالية الفعل وبناؤه بشكل ذاتي... دون إكراهات الفرض والقسر، أوالزمن، أو رقابة الكبار...
*أرضية هذا المقال، مداخلة قدمت في الندوة التي أقيمت بالرشيدية في "الملتقى الثاني للفلم والقصة القصيرين"، المنظم من قبل جمعية "سينما زيز الرشيدية" أيام 9،10،11 دجنبر 2011. وكان موضوع الندوة "توثيق الذاكرة حول ألعاب الطفولة التقليدية الشعبية".