كانت البداية يوم الثلاثاء 21 يونيو 2011، على الساعة الثالثة والنصف بعد الزوال، لم أكن أعلم أن إصراري على الخروج لاقتناء قنينتين من المشروبات الغازية، سيدخلني في تجربة مريرة قد تقعدني الفراش لأيام طوال.
خطوة غير محسوبة، والتواء في الكاحل، كانا كافيين لكسر عظم في قدمي، وإدخالي لمستعجلات المستشفى الإقليمي مولاي علي الشريف بالرشيدية، لتبدأ رحلتي في اكتشاف عوالم قطاع الصحة بهذا الإقليم الذي حكم عليه أن يذوق المر رغم أن أرضه لا تنبت إلا كل حلو...
ساعات طويلة قضيتها بمصلحة المستعجلات، أنتظر دوري مع أناس أغلبهم لا يبدو عليه أي مرض، وأصحاب البزات البيضاء يقطعون الممر جيئة وذهابا، لا تعرف منهم الممرض من الطبيب من شيء آخر، وقدمي تزداد انتفاخا مع مرور الوقت دون أن يلتفت إلي أحد أو يسألني حتى عن سر وقوفي حافيا دون حذاء.
التفت إلي مرافقي قائلا: "أرهم بطاقتك المهنية، فقد يتغير تعاملهم بمجرد رؤيتها"... لكني اخترت أن ألعب دور البطل، لأرى كيف يعامل المواطنون في رحاب ملائكة الرحمة، لكن الحقيقة أنه لا مجال للبطولة في مكان كالذي كنت فيه، والذي احتجت فيه لأزيد من ثماني ساعات لأعرف أن "الجبص" كاف لتضميد جراحي، لكنها كانت كافية لأعيش رحلة رعب حقيقية أطول من كل أفلام الرعب المتداولة في صالات العرض والسينما.
طال وقوفي أمام غرفة طبيب المستعجلات التي لم ألجها أبدا بعد وقوف طال لما يقارب الثلاث ساعات، ولم أجد بدا من الاستنجاد بقريب يشتغل بنفس المستشفى، ليتحرك بعدها بعض الممرضين لإدخالي لصالة الكشف بالأشعة بعد أن جاوزت الساعة السادسة بعد الزوال، لأكتشف كسر عظم في قدمي.. وهنا ستبدأ رحلتي مع الرعب، واللعب على الأعصاب من ملائكة رحمة باعوا أجنحة الملائكة ومشاعر الرحمة، وصار المريض أمامهم مجرد دمية بلا مشاعر يجوز اللعب بها وبمشاعرها دون حرج...
توالت علي زيارات الممرضين، ليستعرضوا علي عضلاتهم المعرفية، متنبئين بمصير قدمي، دون مراعاة لمشاعري ولا لحالتي النفسية، مبرزين كفاءتهم وقدرة وزارتنا الوصية على تكوين ممرضين يتجاوزون علم الطبيب وأساتذته...
جاءني الممرض الأول ليقول لي بعد السلام: "ياك لاباس" أجبته بأنني أصبت بكسر في قدمي، فأجابني قائلا: "عادي، غادي يحل ليك الرجل ويدير ليك واحد الحديدة ب les visses"، فعلا "عادي" فالأمر يتعلق ب "حديدة" أخرى لا تحس أصلا والحديث معها بهذا الشكل سيرفع من معنوياتها...
الممرض الثاني كان أذكى من الأول حين قال: "لا لا ماشي هكاك أصاحبي، ما تخافش، غير من فوق الجلدة بلا ما يحل ليك الرجل غادي يدخل واحد المسمار فالعظم اللي مهرس باش يجمعو"، والحقيقة أن كلمة "ما تخافش" هي التي حطمت في داخلي كل الشجاعة التي بقيت معتمدا عليها لتجاوز المحنة.
الممرض الثالث لم يدخل معي في تفاصيل العملية لكونه خبيرا في التخدير، ولم يؤيد أي فرضية من فرضيات من سبقوه، غير أنه أكد شيئا واحدا أن التخدير سيكون موضعيا، فأحسست ببعض الراحة للحظات، غير أنه أصر أن يعيدني إلى مسلسل الرعب قائلا: "غادي يديرو ليك البنج فالما ديال الركبة"، "وكواااااااااااااااااااااااااااك أعباد الله واعتقوا الرووووووووووووووووووووح"، كدت أصرخ عاليا مستنجدا بهذه العبارة، غير أني مع ذلك تمالكت نفسي رغم أن حالتي النفسية وصلت أدنى مستوياتها.
أما رابعهم فقد كان الأذكى والأرحم، سألني: "آش قالك الطبيب"، لم أكن أعلم عن أي طبيب يتحدث، لأني لم أر أي طبيب منذ ولجت بوابة المستشفى، عندها أكد لي نظرية زميله في التخدير، لكن برواية أخرى لست أدري من أي سند ولا عن أي راو اقتبسها، "ما تخافش أصاحبي أنا غادي نكون معاك فالبلوك البنج غير لوكال، غادي نشبعوك هضرا حتى نكملو، حيت البنج غادي نديروهليك فبوخدو"، "آآآآآآشمن بوخدو، واش بقا عندي بعدا أنا شي بوخدو من بعد هاد الفيلم ديال دراكولا اللي درتولي"...
كل هذا حدث وأنا بعد في مصلحة المستعجلات، ليزورني طبيب المصلحة عند الثامنة مساء ليسألني: "آش عندك"، أجبته أنني أصبت بكسر في قدمي فقال: "آه آه انت مول الهرس، غادي تنعس، آرى لاكارط"، كلمة "غادي تنعس" تعني في قواميس المستشفى أنني سأخضع لعملية جراحية، وهذا ما أكده مرافقي بعد عودته من الإدارة لإتمام إجراءات مبيتي بالمستشفى حين قال: "قالوليك ما تفطرش غدا الصباح"...
ياااااااااااا الله...
استسلمت للأمر الواقع، وبداخلي بركان من المخاوف، ودخلت عنابر المستشفى بحثا عن سرير، كان المستشفى مكتظا بالمرضى، تسوده الفوضى، وبقايا المأكولات وبعض القارورات مرمية هنا وهناك.. وجدت سريرا في آخر غرفة في أقصى الممر، لم يكن يهمني إلا أن أجد بالقرب منه وصلة الكهرباء لاستعمال حاسوبي حتى لا أنقطع عن العالم الخارجي، لكن عوالم المستشفى الداخلية أنستني الحاسوب وعوالمه، فقصص المرضى بتعددها واختلافها وغرابتها تؤكد فعلا أن الداخل إلى مستشفيات الإقليم مفقود والخارج منها مولود...
استسلمت لقصص المرضى ومعاناتهم، ومع كل قصة يزداد خوفي وارتيابي، فقررت أن أضع حدا لبطولتي الزائفة، وأخذت هاتفي عله يكون منقذا لي من هذه الورطة التي وضعتني فيها خطوة غير محسوبة وقنينتان من المشروبات الغازية...
اتصال هاتفي واحد، كان كافيا ليتغير كل شيء، لأحظى بعدها بزيارة المندوب الإقليمي لوزارة الصحة وبعده بدقائق، طبيب العظام الذي خيرني بين "الجبص الأمريكي" الذي يباع بالصيدليات، وبين "الجبص العادي" الذي كان أصلا حلي الوحيد، لأن الساعة حينها كانت تقارب الحادية عشرة ليلا، والصيدليات مغلقة، لأغادر المستشفى بعدها بنصف ساعة برجل "جبصية" بيضاء، وعكاز أنط عليه مقلدا "الكانغورو" لأني لم أتعود عليه بعد ولم أتعلم بعد كيفية استعماله.
كنت أظن أن رحلتي مع العذاب وأفلام الرعب قد انتهت، وأنني لن أرى المستشفى إلا بعد خمس وأربعين يوما لأزيل "الجبص" وأخضع لحصص الترويض الطبي كما أمرني الطبيب، غير أن "دراكولا" أصر على زيارتي في ليلة ظلماء موحشة، أحسست فيها ب"الجبص" يضيق على قدمي حد الاختناق، تحملت الألم وضيق التنفس لساعات، ولم أجد بدا من استجماع ما تبقى من قواي والاعتماد على نفسي لإخراج دراجتي الهوائية، واللجوء إلى مستعجلات المركز الاستشفائي المحلي 20 غشت بگلميمة.
كانت الساعة ساعة فجر، الرابعة صباحا، حين ولجت بوابة المستشفى، سألتني الممرضة المناوبة عن المشكلة وطلبت مني الانتظار لتخبر الطبيب، لتعود بعد دقائق قائلة: "قاليك خود دوليبران ونعس"، أجبتها: "دوليبران راه ما كيسكتليش أنا الراس عاد يسكت لي الحريق اللي ف رجلي"، عادت الممرضة إلى الطبيب الذي جاءني بكل برودة أعصاب ليقول لي: "ما عندنا ما نديروليك، خود دوليبران ونعس، راه ما عندناش باش نحيدوهليك، إيلا ما قديتيش تصبر حتى للصباح، شوف شي نجار يحيدوليك"...
صحيح أنني قد أتفهم ظروف اشتغال الأطباء بمصلحة المستعجلات، وقد أتفهم انعدام الإمكانيات، لكنه من الصعب جدا أن أتقبل أو أتفهم أسلوب: "ما عندنا ما نديروليك"، و"شوف شي نجار"، فلا أظن أنني لجأت إلى حداد أو لحام ليخبرني أن الأمر يتعلق بمسألة يجب علي اللجوء فيها إلى نجار، وكان حريا بطبيبنا أن يتعلم أسلوب التعامل مع المرضى احتراما لحالتهم النفسية بدل التعامل معهم كقطع خشبية لا تحس ولا تشعر، ولا دواء لها إلا عند النجار!!!!!
والنتيجة التي استخلصتها من رحلتي مع ملائكة الرحمة، أن المريض بإقليمالرشيدية يحتاج إلى المال أولا لشراء الأدوية ومستلزمات التطبيب وربما لمآرب أخرى، لكنه في حاجة أيضا لهاتف يحوي أرقاما مهمة، أو "لوجوه" تفتح الأبواب المغلقة والمشاكل المستعصية...
فهل بقطاع صحة على هذه الحال سنعالج مرضى إقليم العلويين، ونضمد جرحاه؟؟؟ وعلى العموم فنحن في مقالنا لا نعمم على كل العاملين بالقطاع، لكن المنصفين منهم يعترفون بأن الحالات التي نتحدث عنها هي الطاغية ولابد من عمليات جراحية نداوي بها جراح قطاع الصحة بالإقليم.. فهل سنجد الجراح القادر على ذلك؟؟ أم أن مصير جراح قطاعنا إلى التعفن؟؟؟