الصمت يعني الموت والكلام إعلان للوجود، من خلال الكلام نستبقي الآخر معنا، ونستبقي أنفسنا معه. تأخذنا الأماكن أو مشاغل الحياة بعيدًا فلا نرى أصدقاءنا أو أقاربنا مدة طويلة لكننا نلهث وراء أصواتهم، نخترع أشياء تقربنا منهم، ووسائل نستشعر من خلالها نبضهم في الحياة. من خلال الهاتف الجوال (الموبايل) نتمكن من التواصل مع الآخرين دون مسافة. إنه وسيلة تمنحنا الوجود الرمزي الدائم معهم، تجعلنا لا نغيب في عتمة الصمت. أدهش حين يراجعني أشخاص كثيرون شكواهم الرئيسة هي إدمان الهاتف النقال، أو ما يُطلق عليه "هوس الموبايل" Phone mania يجدون أنفسهم واقعين في أسره، لا يفارقهم حتى في الحمام أو غرف النوم، البعض يعلقه بجراب خاص في صدره كأنه يعلق هويته المميزة لشخصيته، وآخرون يثبتونه في حزام البنطلون كأنه جزء من جسدهم، بعضهم الآخر يصنع له خصيصًا جيبًا داخليًا في القميص بجوار القلب كأنه مواز لنبض الحياة. والسؤال المطروح ما الذي يدفع بعض الناس إلى إدمان النقال؟ هل هو استخدام سيئ للتكنولوجيا فحسب، أم أنه يمس جانبًا شخصيًا ونفسيًا لديهم؟. الاحتياج للآخر لقد اختصر الموبايل المسافة بيننا وبين الآخر، جعلنا قريبين منه باستمرار أيًا كان مكانه أو البلد التي يعيش فيها، يمكننا الاطمئنان عليه.. استشعار وجوده.. استحضاره في أي لحظة خصوصًا وأنه يمكننا ليس فقط الاتصال الصوتي بالآخرين، وإنما أيضًا رؤيتهم من خلال كاميرا الهاتف، وتسجيل مقاطع صوتية ومرئية لهم تجعل من حضورهم الرمزي الدائم أمرًا ممكنًا، وساعد على ذلك الإغراءات والعروض التي تقدمها شركات الهواتف والتنافس بينها لإغراء العملاء بالاتصال وتجريب أحدث الخدمات، كأنه اتفاق لاشعوري بين جميع الأطراف على مقاومة الصمت الذي يعني بشكل أو بآخر الموت، والخوف من افتقاد الآخر، والرغبة في التواصل الدائم معه. إن إدمان الموبايل هو إدمان للوجود في حضرة الآخر، حتى وإن كان وجودا هامشياً عبر الصوت فقط أو مشاهدة صورة بعيدة له، خاصة مع غياب العلاقات الحميمة الحقيقية وطغيان الحياة المادية ما جعل الإنسان يبحث عن أي وسيلة تقربه من الآخر، وإيهام الذات بأنها لا تموت، ولا تعيش في وحدة أبدية، ولن ترحل بعيدًا مع المسافة والبلاد الغريبة. إنه وسيلة تربطه بالعالم كله، ألا يمكننا من خلال النقال إجراء اجتماعات، وفتح غرف دردشة، والدخول على الإنترنت؟ بعدما اختزل العالم في جهاز صغير لا يفارق اليد، نقبض عليه كأننا نقبض على الحياة، وهذا ما أكده Need Ekhardt أستاذ علم الاتصال بجامعة Rawan أن 95% من المكالمات التي نجريها عبر« الموبايل» غير ضرورية لكننا في الواقع نقوم بها لأنها تشعرنا بالراحة والتواصل مع الآخرين. الفراغ جانب آخر جعل من استعمال الموبايل سلوكا قهرياً أو إدماناً، هو الفراغ الذي يعيشه معظم الناس، وافتقاد الهدف الحقيقي في الحياة، وغياب ملامح واضحة للشخصية وماذا يجب أن تفعل في يومها، فأصبح الموبايل معادلاً لشخصية صاحبه، يتفنن في اختيار النغمات لدرجة أن شركات الهواتف تركز اهتمامها في ابتكار نغمات تتماشى والأذواق المختلفة للمستخدمين ما بين نغمات أغاني وموسيقى مفضلة ونغمات بأسماء الأشخاص أو بصوت حيوانات وغيرها. إضافة إلى الاستخدامات الأخرى مثل الإعلانات، والدعوات الشخصية، والتواصل الإباحي وهو تواصل غير معلن عنه صراحة مثل إرسال واستقبال النكات الإباحية، والمقاطع الجنسية، ما يجعله مجالا آخرا للتنفيس، ومسرباً شخصياً للخروج عن المألوف. خرج الموبايل من كونه وسيلة للتواصل وتسهيل الحياة العملية والشخصية ليصبح غاية في ذاته يقتضي ميزانية خاصة للاهتمام به وباكسسوارته ونغماته وتغييره كل فترة قصيرة حتى يتماشى مع "الموضة" والمستوى الاجتماعي والاقتصادي لا مع احتياجاتنا والغرض من استخدامه، فأصبح يُنظر له كجزء من شخصية صاحبه، تلك الشخصية التي تفتقد للتقدير الذاتي والإحساس الإيجابي بنفسها، فتبحث عن شيء خارجي يمنحها هذا التقدير ويجبر الآخرين على احترامها. معنى مختلف إن الأشياء تكتسب معناها الإيجابي أو السلبي من كيفية استخدامنا لها وملاءمتها لظروف حياتنا وشخصيتنا وعملنا، فليس هناك قانون موحد أو وصفة سحرية تجعل من استخدام الموبايل حداً مناسباً أو جيداً للجميع. فالأمر يتوقف على صدقنا مع أنفسنا وهل فعلاً استخدامنا له ملائم لاحتياجاتنا الحقيقية أم تعويض نفسي لرغبات أخرى غير مُشبَعة فيصبح عبئًا وإرهاقًا ماديًا ونفسيًا؟. مع التوازن يصبح للأشياء معنى إيجابي مختلف.. معنى يكتسب قبحه أو جماله من جمال العقل أو تفاهته، من صفاء النفس أو كدرها. إيلاف شاركونا بتعليقاتكم على المواضيع