ألسَّائِح أَسوحُ في الكَون، لا حُدودَ لي، لا، ولا زَمَن، ولا قُيودَ من عَقيدَةٍ أو مُجتَمَع؛ فإنَّما حُدودي الفِكْرُ الإنسانيُّ الَّذي لا حُدودَ له، وإنَّما قُيودي الإنسانُ، هَناؤُهُ وصَفاؤُه
ألجَوَّال جَوَّالٌ أنا بعدَ اندِماجي، ووَاجِدٌ، في تَجْوالي، الكَونَ واللاَّكَون، الوجودَ والعَدَم، في تَخاطُبٍ بلُغة اللاَّلغة، لُغةِ السُّكون، لُغةِ الاندِماج. وسائِحٌ أنا في الزَّمان واللاَّزمان، والمَكان واللاَّمكان؛ سائِحٌ أنا في الزَّمَكان، دونَما حُدود، وواجدٌ ما هو خافٍ عن إنسان الأرض. وإنْ أنا في المَعرِفَة المُطلَقَة والحَقيقَة الكُلِّيَّة، وحُرُّ في التَّجوال حيثُ الجَديدُ وما فَوقَ بَشَر اليَوم والغَد، فمُعَرِّجٌ أنا، بفِعل حَنينٍ إنسانيٍّ باقٍ، على الأرض حيثُ المَحْيا السَّابِق، وحيثُ كائِناتٌ، إنْ مُعْتَبَرَةً مُتَحَرِّكةً أو جامِدَة، مُدرِكَةً أم غَيرَ مُدرِكَة، في تَخاطُبٍ وتَفاعُلٍ مُتَناغِمَين في ما بينَها، ومع الكَون. مُعَرِّجٌ أنا على إنسانِ أرضٍ مُدْرِكٍ إدراكَه، وإنَّما جاهِلٌ إدراكَ غَيرٍ في أرضٍ وغيرِ أرض، جاهِلٌ المَعرفةَ المُطلَقَة في الحَقيقة الكُلِّيَّة. مُعَرِّجٌ أنا، فشاهِدٌ، فحامِلُ يَراعَةٍ، في استِعادةٍ رَمزيَّةٍ لسائِحٍ من عالَم ما بعدَ المَوْت في عالَم الأحياء؛ والاستِعادةُ، بالتَّالي، يَأْسِرُها البَشَرُ، وحُروفُهم. جِنازَة ما كِدْتُ أَنْعَتِقُ، وأَنْدَمِجُ، حتَّى اسْتَأْذَنْتُ نَفْسي، وسَبَحْتُ في العَدَجود الَّذي عَرَفْتُ اللَّحظةَ، قاصِدًا الحَياةَ الَّتي تَرَكْتُ اللَّحظةَ نَفسَها. ووَصَلْتُ جُثَّتي، فوَجَدْتُ حَولَها أهلاً وأصدقاء، بعضٌ يَأْسَفُ لِغِياب، وبعضٌ يَهْزَأُ من وُجود، قِلَّةٌ تَتَكَلَّمُ على الحَياة والمَوْت، وكَثرةٌ تَتَلَهَّى بالدُّنيا، سياسةً وتِجارَةً وانتِقادَ آخرين؛ وأمَّا الجثَّةُ، فلَو كُنْتُ ما زِلْتُ فيها، لَضاقَ صَدرُها من الزَّحمة، ولَكُنْتُ أَقَمْتُها بينَ الجَمع صارِخًا: "هُدوءًا يا قَومُ، هُدوءًا". ثمَّ كانَتْ جِنازَتي، بحَسَب التَّقليد، فصَدَحَتْ أصواتٌ أَطْرَبَتْني، وأَنْزَلَتِ السَّماءَ أرضًا، لكِنَّ الجَليلَ الَّذي طَلَبْتُ ما أتى، بَل رَهْطٌ من أصحاب مَفاتيح السَّماء، راحَ بليغُهم، على غَير طَلَب، يُشيدُ بي، ونَسِي أنْ يَقْرَأَ على الحاضرين، على طَلَب، ما كَتَبْتُ لأُطَمْئِنَهم عنَّي وأَطْمَئِنَّ عليهم. وحانَ موعدُ اللِّقاء الأخير، فحَمَلَ نَعْشي أحفادٌ وأبناء، وقد أَسْعَدَني ذلك، ثمَّ أُودِعْتُ مَثوايَ الأخيرَ وَسْطَ الدُّموع ممَّا لَم يُسْعِدْني البَتَّةَ، أوَّلاً لأنَّني تَسَبَّبْتُ، عن غَير قَصدٍ منِّي، بلَحظاتِ تَعاسَةٍ لمَن أُحِبّ، ثمَّ لأنَّني أَيْقَنْتُ أنَّ مَن قَرَأَ منهم كِتاباتي لَمْ يَسْتَطِعْ مقاومةَ خَسارة مَن يُحِبّ، فكأنَّه، بحضوره جِنازتي يَعيشُ جِنازتَه، ويَبْكي ذاتَه، في حين أنِّي لَمْ أُدْرِكْ مَوْتي بالذَّات، وأنا الآنَ معه، وفيه، كما في العَدَجود. مَدينَةٌ وشاطِئ حُمْتُ فوقَ مَدفَني، فيما ناقوسُ الحُزن عليَّ تُرَدَّدُه، لهُنَيهاتٍ، تلَّةُ ميلادي، ويَمَّمْتُ مدينةَ طُفولتي وشَبابي وعَرَقي، وشاطِئَها، فوَجَدْتُهما، من عَلِ، في تَخَبُّطٍ بين الطَّبيعة وما تُشَوِّهُه يدُ الإنسان، وكأنَّ زُرْقةَ البَحر والسَّماء، وخُضرةَ الأرض، في صراعٍ يائِسٍ مع رَماديَّة الأبنية؛ فحَزِنْتُ عليهما أكثرَ ممَّا حَزِنْتُ على مَوْتي، لأنَّني انْعَتَقْتُ في حين أنَّهما، هما المؤهَّلان لتَكوين دُرَّةٍ مَشرقيَّةٍ فَريدة، ما زالا تحتَ رَحمة جَشَعٍ فَرديٍّ مُزمِن. شارِع ووَصَلْتُ شارعًا عَرَفْتُ بالأمس، فوَجَدْتُه، في تناغُمه المَنقوص ما زال، وعلى سَجِيَّة أهله ما بَرِح، وبشؤون يَومه وشُجونه يَتَلَهَّى، وبمُناسبة نَقصٍ في الخِدْمات يَتَطاحَنُ أبناؤه، يَتَشاتَمون، يَتَضاربون. وأمَّا الحَسَد، في ما عدا ما سَبَق، فخُبزُ الشَّارع اليَوميّ: فلانٌ اقْتَنى لزَوجه سيَّارةً جَديدة، فلِمَ لا تَقْتَني لي، بَعْلي، واحدةً أكبَرَ وأجَدّ؟ وأمَّا نَقْلُ الأخبار باللِّسان المُصْلَت فيَبْدَأُ في الصَّبِيحة وقلَّما يَنْتَهي مساءً؛ وأمَّا الأخبارُ فمِن مِثل فُلانَةٍ الَّتي تَلاسَنَتْ مع جارَتها، فعادَتْها، وصادَقَتْ، لإغاظتها، الجَارةَ الَّتي سَبَقَ لها وعادَتْ كُرْمانًا لعَين الجارة الأولى... حتَّى بِناءُ الزَّاوية الَّذي يَقْطُنُه أرفعُ ناس الشَّارِع عِلمًا وحِلمًا وشأنًا، ممَّن يَمْنَعون أنفسَهم من الانغِماس في تَفاهات أبناء الشَّارِع الآخرين، وَجَدْتُ أفكارَ قاطِنيه تَتَّجه، خَفِيًّا، ودونَما انتِقالٍ إلى الأفعال، شَطرَ التَّحاسُد، فكلٌّ يَحْسُدُ الآخر على ما هو فيه، فيما لا أحدَ يَرْضى بعَيشه. أفعَيْشٌ يَكونُ مِثلُ هذا؟ صحيحٌ أنَّ القَناعةَ كنزٌ سريعُ الفَناء، ولكن، أليسَ عدمُ الاكتِفاء هو الطَّريقُ إلى الفَناء؟ ثمَّ، أما من سَبيلٍ للقَناعة والاكتِفاء، فالصَّفاء، بعيدًا عن الكَسل والاتِّكاليَّة، فالتَّحاسُد؟ سَلْوَى ورَأَيْتُهم يَرْكُضون خلفَه، ويُحاوِلون إثارتَه لسَلْواهم، ويَسْتَمِرُّون حتَّى يُثيروا فيه الجُنونَ بحيثُ يَصْدُقُ ظَنُّهم في ما هو عليه، مُتَناسين أنَّهم هم الَّذين أَوْصَلوه إلى ما هو فيه. فما كانَ ضَرَّهم لَوِ احْتَضَنوه لِيَتَعافى! لَم أَسْتَطِع مُساعدةَ المِسكين، ولكن، أليسَ الجُنونُ أفضلَ من الجَهل؟ أليسَ أسْمى من اللاَّإنسانيَّة؟ مُراقِب وراقَبْتُ مُراقِبًا اتَّخَذَ من ناصِيَة الشَّارِع مَقرًّا لنَشاطه، بحيثُ يَجْلِسُ ساعاتٍ يَلْحَظُ خلالَها النَّاس، رَوْحَةً ومَجيئًا: هذا يَرْكُضُ كالأرنب، وتلك تَمْشي كالبَطَّة؛ هذا سيَّارتُه تَلْفُظُ أنفاسَها الأخيرة، وتلك ريشُ قُبَّعَتِها كالطَّاووس؛ هذا يُشَغِّلُ آلتَه الحاسِبَة في تجارة، وتلك تَضَعُ الأحمرَ على الشِّفاه. وأمَّا صاحبُنا فيَضْحَكُ، ويَضْحَكُ، ويَضْحَك. وتَوقَّفَ المُراقِبُ عن الضَّحِك لِلَحظةٍ خَلا فيها الشَّارِعُ إلاَّ من هِرٍّ يَسْعى للنَّيل من فأر، فأَسْرَعَ بالإمْساك بمِرآةٍ كانَ أَوْدَعَها جَيبَه، ونَظَرَ فيها، فإذا بالابتسامة تَعودُ إلى وَجْهه، وبالضَّحِك يَنْطَلِقُ من جَديد. ألا دامَتْ ابتسامةُ صاحبنا، وضَحكتُه، إذ لا بأس ممَّن يَضْحَكُ من النَّاس في سِرِّه طالَما يَضْحَكُ من نَفسه في العَلَن. والإنسانُ بالضَّحِك يَتَميَّزُ عن الحَيوان! فما بالُنا لَو خَسِرَ ميزتَه تلك؟ مُرابٍ يَأْكُلُ خُبزَ أخيه من غَير أنْ يَمْسَحَ عن جَبينه العَرَق. ذاكَ هو المُرابي الَّذي رَأَيْتُ أناسًا من ذَوي المِهَن المختَلِفة يَقِفون على بابه، وكأنَّهم يَسْتَعْطون، فيما هو يَتَجَبَّرُ ويُقْرِضُهم المالَ بفوائدَ لا طاقَةَ لهم بها؛ وأمَّا سَعيُهم فلتأخير مَصيبةٍ من شأنها إطاحةُ أعمالهم، على بَساطتها؛ وأمَّا سَعيُه، من خِلال فوائده المرتفِعَة، فلِتَسريع انهيارِ أعمالهم تلك. لَيْتَه يُجَرِّبُ كَسبَ خُبزه بعَرَق جَبينه، صديقُنا المُرابي، عِوَضَ التَّلَهِّي بإهدار عَرَق الآخَرين. مَنَّان كَريمٌ هو، وإنَّما مَنَّان. يُحِبُّ العَطاء، ويُجْزِلُه، ولكنَّه، كلَّما مدَّ يدَه إلى جَيبه، أَسْمَعَ مَن يَهِبُه مالاً كلامًا مُذِلاًّ من غَير أنْ يَسْتَخْدِمَ مُفرداتِ الإذلال، ثمَّ أَسْمَعَ الكلامَ عَينَه كلَّ مَن أَتاه زائِرًا، أو صادَفَه عندَ مُزَيِّن شَعرٍ أو في مناسبةٍ اجتماعيَّة. ما أسهلَ ظُلمَ المُرابي إذا ما قيسَ بإذلال المَنَّان! عَرَّاف دَخَلْتُ مَقرَّ عَمله العابِق بالشَّعوذات، روحًا ووسائِلَ، ورأيتُه، إلى ضِعاف النَّفس من أصحاب المشاكل، يُسدي النُّصحَ ويُقَدِّمُ العِلاج. في كفِّ ضحيَّته، أو مُحيَّاها، يَقْرَأُ المُستَقبَلَ صاحِبُنا، وفي النُّجوم وكُرَته البِلَّوْريَّة. لا رادعَ له، لا، ولا ضَمير: يَفيدُ من ضُعف الآخرين ومشاكلهم فيَمْلأُ جَيبَه بمالهم، وعُقولَهم بالحَماقات. ذَكيٌّ صاحبُنا، مُتَفَوِّقٌ على الآخرين، لا بَل مُحتالٌ صاحبُنا، الإصلاحِيَّةُ مَدرستُه. سِياسَة وظَلَمَني الزَّمانُ والمَكان مُجَدَّدًا، فدَخَلْتُ اجتماعًا بَدا لي سِرِّيًّا: فبابُ القاعَة مُقفَلٌ في إحكام، والحُرَّاسُ في المَبنى، وخارجَه، نَشِطون. ولكن، أَعَلى مَعرِفَةٍ مُطلَقَةٍ وحَقيقَةٍ كُلِّيَّةٍ يَتَحاذَقون؟ دَخَلْتُ القاعَةَ، إذًا، وكانَ الاجتِماعُ قد بَدَأَ؛ بيدَ أنِّي أَدْرَكْتُ فَحْواه برُمَّته، وكذلك موجِبَ انعِقاده، وأهدافَه، وما سيَليها من وَقائِع، فذُعِرْت. ذُعِرْتُ لاجتِماع ممثِّلي قُوَّةٍ عُظمى لا تَقْوى إلاَّ على الضُّعَفاء، مع "فاعِليَّاتٍ" مَحَلِّيَّةٍ تَبْحَثُ لنَفْسها عن مكاسِبَ شَخصيَّة، وتَطْمَحُ لأدوارٍ وَطنيَّة، ولِمَ لا، إقليميَّة، وحتَّى، دَوليَّة، فتَعْرِضُ خِدْماتها على الأجنبيِّ الَّذي يَلْعَبُ على إثارة النَّعرات الدِّينيَّة والعِرقيَّة ليُحَقِّقَ طُموحاتِه الماديَّةَ الَّتي لا تَقِفُ عندَ حَدّ، فيُطالِبُ بالدِّيمُقراطيَّة حيثُ تَدعو الحاجَة، ويَتَناساها حينَ يَرْغَبُ في ذلك، بائِعًا السِّلاحَ، زارِعًا المَوْتَ والدَّمارَ، تارِكًا المُتَخَلِّفَ في تَخَلُّفه. ديمُقراطيٌّ نَشِطٌ أجنبيُّنا، ووَطنيٌّ طامِحٌ ابنُ بَلدنا، ولا غُبارَ على الإثنَين. فهَنيئًا للإثنَينِ الدِّيمُقراطيَّةُ والوَطنيَّة! لَمْس وتِهْتُ في حَديقةٍ لم تُزْرَعْ بالرَّماديِّ بَعدُ؛ ولم يَتَنَبَّه لي، بالطَّبع، ذانِكَ العاشِقانِ الصَّغيرانِ اللَّذانِ، على مَقعَدٍ في ظلِّ شجرةٍ يَلتَقِيانِ، يَتَلاطَفانِ، وعندما بالرَّغبَةِ الشَّديدةِ يَشْعُرانِ، اليَدَ باليَدِ يُمْسِكانِ، فكأنَّما على أقصى عَلاقةِ جَسَدٍ يَحْصُلانِ. عاشِقا اليَدِ باليَدِ، ليتَ الزَّمانَ يَتَوَقَّفُ عِندَ لَمْسٍ ببَنانِ! صَمْت وهِمْتُ بينَ شارِعَين مُتَوازِيَين، يَقْطُنُ أبنيةَ أوَّلهما الفَخمَةَ عِلْيَةُ القَوْم، وأبنيةَ ثانيهما بُسَطاؤه. وكانَ الشَّارِعُ الأوَّلُ يَضِجُّ بالنَّاس وعاداتِهم، فيما الشَّارِعُ الثَّاني صامِتٌ إلاَّ من حَفيف أوراق الشَّجَر المُتساقِطَة خَريفًا. وسَأَلْتُ عن سَبب الضَّجيج، فقِيلَ لي على الفَور: أَوَلَمْ تَدْرِ ما حَصَل؟ أَجَبْتُ: لا. فقِيلَ لي: لقد ماتَ المَلِك، مَلِكُ الأسواق الماليَّة العالميَّة، فَريدُ عَصره، صاحبُ المَلايين، وخِلافَتُه قَيدُ التَّداوُل. وسَأَلْتُ عن سَبب الصَّمت، فأُجِبْت: لا جَديدَ تحتَ الشَّمس. فسَأَلْتُ مِرارًا وتَكرارًا، إلى أنْ أَفادَني بائِعُ صُحُفٍ مُتَجَوِّلٌ أنَّ الشَّاعِرَ، ذا حِذاءِ المُتَشَرِّدين ورائِحةِ عَرَق الكادِحين قد ماتَ، والطَّبيعةُ تَبْكيه لأنْ لا خَليفَةَ مُحتَمَلاً له. مُنْقِذ تَسَلَّلْتُ معه إلى البيت: لقد أَتَى ليَسْرُقَ الرَّجلُ. ضاقَت به الأيَّامُ فشَغَّلَ يَدَه في الحَرام، وتَوالَت غَزواتُه إلى أنِ امْتَهَن السَّرِقَة. وكانَ قد خَلَع بابَ البيت في مَهارة، وانْدَسَّ فيه وُصولاً إلى حيثُ الضَّحايا تُخْفي أموالَها. وما إنْ باشَرَ بوَضع يَده على مال الغَير حتَّى سَمِعَ ضَجَّةً: إنَّها العَجوزُ، مالِكةُ البيت والمال، تَصْحو، فالتَزَم السَّارقُ جانبَ الحيطَة والحَذَر، وتَهيَّأَ للأسوإِ. بيدَ أنَّ الضَّحيَّةَ، وهي تَسْكُنُ البيتَ بمُفردها، ما كانَتْ في وارِد إدراك ما يَحْصُل، بَل كانَ جُلُّ همِّها بُلوغُ الهاتِف لمُخابَرَة الإسعاف إنقاذًا لنَفْسَها، على الأرجَح، من أزمةٍ قلبيَّةٍ مفاجِئَة. وهَوَتِ الضَّحيَّةُ على بُعد نَحو مِترَين من الهاتف، لا حِراكَ يُذْكَرُ لها. وما إنِ اسْتَوْعَبَ السَّارقُ الأمرَ حتَّى تابَعَ ما أَتى من أجله. وإذ هو يَمْلأُ جَيبَيه مالاً وحُلًى، أَحَسَّ بِما يَدْعوه إلى عَملٍ إنسانيّ، فرَكَضَ ورَفَعَ سمَّاعةَ الهاتف، وطَلَبَ الإسعاف. ثمَّ أَطْرَقَ لهُنَيهَةٍ مُفَكِّرًا: عليَّ أنْ آخُذَ ما وَقَعَتْ عليه يَداي وأُنقِذَ نَفْسي بعدَما أَنْقَذْتُ العَجوز. وهَمَّ بالمُغادرة، لكنَّه، من غَير أنْ يَدري، وَجَدَ نَفْسَه يُعيدُ ما سَرَق، ويُغادِرُ بيتَ العَجوز، تارِكًا بابَها مَفتوحًا، مُنَبِّهًا جيرانَها إلى ما هي عليه. أسَرِقَةٌ تلك، أم حَظٌّ، أم أنسَنَة؟ إنَّها الثَّلاثةُ معًا: فلَولا السَّرِقَةُ ما حَصَلَتِ العَجوزُ على قِسطها من الحَظّ، وما عادَتْ للسَّارق أنسَنَتُه. ... وقَرَأْتُ في إحدى صُحُف الصَّباح قِصَّةً غَريبةً عن غَريبٍ أَنْقَذَ غَريبةً على نَحوٍ غَريب، وما زالَ اللُّغْزُ لُغْزًا. مَأجور مَأجورٌ لمُمارسة الجَوْر على أصنافه، تلك هي الصَّنعةُ الَّتي امْتَهَن، فكأنَّ العَالم، بالنِّسبة إليه، عِبارةٌ عن مالٍ يَسْعى له بمُختلِف الوَسائِل، من أجل تأمين حَياةٍ آنيَّةٍ أنانيَّة، لَذَّةً ورَفاهيَّة. صادَفْتُه يَعْمَلُ لثَوانٍ، يَرْتاحُ بعدَها لحين صُدور أوامرَ جَديدةٍ إليه. يُضيعُ، في لحظاتٍ، مصالِحَ بُنِيَتْ بالعَرَق والجُهد خِلال سِنين، أو يُهْلِكُ نَفْسًا لا يَمْلُكُ أحدٌ عليها أيَّ حَقّ، ثمَّ يَرْتاحُ زَمَنًا، يَعودُ بعدَه لمُزاوَلة المِهنة الَّتي وَجَدَ فيها، مع الوَقت، هِوايَةً مُشَوِّقَة. لَيتَه يَرْتاحُ الزَّمنَ الأطوَل، مَأجورُ الجَوْر هذا! إخْتِفاء ولَمَسْتُ من تَصرُّفاتِ أحدهم أنَّ فِكرةَ الله اخْتَفَتْ من حَياته، فيما لم تَجِدِ صِفاتُ الأنسَنَة إلى نَفْسه طَريقًا، فكانَت، تلك، أشْقى لَحظاتِ تَجْوالي. عِيد ومَرَرْتُ على نافذةٍ مُضاءَةٍ بشُموعٍ مِئَةٍ بِالكادِ أَطْفَأَتْها مُعَمِّرَةٌ مُحاطَةٌ ببَقِيَّة أبناءٍ وبَنات، وبدَسْتَتَين أو أكثَرَ من الأحفاد، فكانَتْ، تلك، أسْعَدَ لَحظات تَجْوالي. مُتَفانٍ وجاهِلان تَوَقَّفَ جانِبًا، وتَرَجَّلَ من سيَّارته؛ نَظَرَ يَمْنَةً ويَسْرَةً، وبعدَما تَأَكَّدَ من خُلُوِّ الطَّريق من أيِّ سيَّارةٍ لجاهِلٍ مُتَهَوِّر، اِنْتَقَلَ مُسْرِعًا إلى وَسَط الطَّريق لِلَمِّ غُصنِ شَجرةٍ كَبيرٍ كانَ بَقاؤه حيثُ أَلْقى به جاهِلٌ مُهمِلٌ لِيُمَثِّلَ خَطرًا على المواطِن والمُجتمَع. وإذْ هو الْتَقَطَ الغُصنَ وَهَمَّ بالعَودة إلى جانِب الطَّريق، مَرَّ جَاهِلٌ مُتَهَوِّرٌ بسيَّارته الحَديثة السَّريعة، فاصْطَدَم بالمُتَفاني، وفَرَّ من فَعْلَته ومسؤوليَّتها. وما هي إلاَّ لحظات حتَّى مَرَّ الجاهِلُ المُهمِلُ الَّذي أَلْقى بالغُصن من شاحنته، فوَجَدَ المُتَفانِيَ على بُعد أمتارٍ من الغُصن، مضَرَّجًا بدمائه، فتَجاهَلَ الأمرَ، وذَهَب لِحاله. لَمْ يَلْقَ المُذنبان الجاهلان، المُهمِلُ منهما والمُتَهَوِّر، جَزاءَهما أرضًا، ولن يَلْقَياه آخِرَةً، وهما يَنامان، اللَّحظةَ، قَرِيرَي العُيون، فيما عائلةُ المُتَفاني تَبكيه، وتَشْقى. وأمَّا المُتَفاني فانْدَمَج للحال، وأَدْرَكَ، كما أَدْرَكْتُ، أنَّه كانَ وسيَبْقى جُزءًا من العَدَجود، وتَكَسَّبَ المَعرِفَةَ المُطلَقَةَ والحَقيقَةَ الكُلِّيَّة، فيما جاهِلا الأرض ما زالا في جَهلهما. ولكن، لا بأسَ عليهما، فهما، في جَهلهما، قد خَلَصا أرضًا دونَما إدراك، فيما، آخِرَةً، سيَخْلُصان مع الإدراك، ويُدْرِكان اندماجَهما، تمامًا كما خَلَصْتُ وخَلَصَ المُتَفاني، وأَدْرَكْنا اندِماجَنا. رِسالَة واقْتَحَمْتُ فِكْرَ إنسانٍ تَفاعَلَ مع الطَّبيعة، وانْكَبَّ على وَضع كتابٍ يَحْمِلُ عُنوانَ "الرِّسالة"، ومَوضوعُه بَثُّ رِسالةٍ من عالَم ما بعدَ المَوْت، تُطَمْئِنُ البَشَرَ إلى مَصيرهم، حَياةً ومَوْتًا، وتَجْعَلُ من جَميعهم آلِهَةً، أو بالأحرى، جُزءًا من الإلَه الَّذي لا يَتَجَزَّأ، وتَدْعوهم إلى عَيشٍ أرضيٍّ أكثَرَ هَناءً. وَدَدْتُ أنْ أُهَنِّئَ ذلك المُتَفاعِلَ على رسالته العَتيدة، فلَم أُفْلِحْ. أخير واقْتَحَمْتُ فِكْرَ إنسانٍ آخَرَ كَتَبَ وظَنَّ أنَّه ما عادَ لديه ما يَقولُه، فراحَ يَبْحَثُ عن موضوع كتابٍ يَكونُ أخيرَه؛ وأَخَذَ يَكُدُّ ويَسْعى، والكتابُ الأخيرُ، مَوضوعًا، وحتَّى عُنوانًا، بعيدٌ عن مَناله. لم يَتَفاعَلْ مع الطَّبيعة صاحبُنا، ونَسِيَ أنْ ما من كتابٍ أخير، أيًّا كانَتْ أهميَّتُه، طالَما هنالك إنسان. وَدَدْتُ أنْ أُوصِلَ إلى الكاتِب نَصيحتي، فلَم أُفْلِحْ. فَلْسَفَة وقَرَأتُ رسالةً أخيرةً من إنسانٍ مَرَّ في حَياته بتجارِبَ عديدةٍ متنوِّعةٍ دَفَعَتْه إلى أنْ يُكَوِّنَ لنَفْسه فَلسفةً خاصَّةً حولَ المَوْت، بحيثُ غدا، عن حَقّ، عاشِقًا إيَّاه. جاءَ في الرِّسالة عَرضُ فِكرة فيلسوفنا عن المَوْت، وتَبريرُ انتِحاره الوَشيك فِكريًّا، وتبرِئَةُ الغَير ممَّا هو مُزْمِعٌ على ارتِكابه. ثمَّ رَأَيْتُ المُفَكِّرَ - وقد فاتَه أنَّ في الحَياة الكَثيرَ الكَثيرَ ممَّا يُضاهي الفِكرَ والتَّفكيرَ في الماوَرائيَّات، عَنَيْتُ عَيشَ الحَياة بما هي عليه – أقولُ، رأيتُه يُقْدِمُ على الانتِحار، في شَجاعَةٍ مُمَيَّزَة، وما اسْتَطَعْتُ رَدْعَه، أو وَداعَه، فاكْتَفَيْتُ باستِقباله. ألمُنْطَلِق مُسْتَمِرٌّ أنا في تَجوالي بعدَ تَعريجٍ، بفِعل حَنينٍ إنسانيٍّ باقٍ، على الأرض حيثُ المَحْيا السَّابِق. ذِكرياتي معي، من مَحْياي، وثابِتَةٌ هي بعدَ تَعريجي؛ لذا، مُسْتَمِرٌّ أنا في تَجوالي، وسائِحٌ في الزَّمَكان، دونَما حُدود. وإنْ أنا في المَعرِفَة المُطلَقَة والحَقيقَة الكُلِّيَّة، ومُنْطَلِقٌ إلى حيثُ الجَديدُ وما فَوقَ بَشَر اليَوم والغَد، فهَمِّي معي: هَمِّي الإنسانُ في حَياته، هَمِّي يَومُه وغَدُه؛ هَمِّي هَناؤه وحُرِّيَّتُه. وأمَّا اسْتِنتاجي فأنْ ليسَ للحَياة والمَوْت، والقُدرةِ في وَجهَيها، المَعرِفَة والحَقيقَة، من مَعنًى لَولا الإنسان. وأمَّا سؤالي فلِمَ، إذًا، سَعادتُه في الأرض استِحالة؟ مُطمَئِنٌّ أنا إلى نهاية الإنسان، فأنا فيها، ولكن، ماذا عن حَياته؟ وهَل من سَبيلٍ لتَحسينها؟ هَمِّي الإنسانُ، وغَيرُ قادرٍ أنا على المُساعدة. ألإنسانُ هَمِّي، وبالمَوْت فقط شَبَعُ الجائِع والجَشِع، وحِلْمُ المُتَفاني والمُتَهَوِّر، وإدراكُ العالِم والجاهِل، والمُساواةُ بينَ الجَميع. هَمِّي الإنسانُ... ولكنْ، في اندِماجٍ أنا، فلا زَمانَ ولا مَكان؛ والإنسانُ والكَون، حَياةً ومَوْتًا في اندِماجٍ أيضًا؛ فما هَمِّي، وَهَمُّ الإنسان والكَون إذًا؟ مُنْطَلِقٌ أنا، مُنْعَتِقٌ من التَّعبير، وَسائِلَ وأحرُفًا؛ مُنْطَلِقٌ أنا، مُنْعَتِقٌ من الفِكْر، قُيودًا ومَحدوديَّةً؛ مُنْطَلِقٌ أنا، مُنْعَتِقٌ من الأنسَنَة، شؤونًا وشُجونًا؛ مُنْطَلِقٌ أنا، مُنْعَتِقٌ من الدَّعوة إلى الانْعِتاق؛ مُنْطَلِقٌ أنا، مُنْعَتِقٌ من المَعرِفَة المُطْلَقَة والحَقيقَة الكُلِّيَّة. مُنْطَلِقٌ الإنسانُ، مُنْعَتِقٌ من إله الكَون؛ مُنْطَلِقٌ إلهُ الكَون، مُنْعَتِقٌ من الإنسان. مُنْطَلِقٌ أنا، مُنْطَلِقٌ الإنسانُ، مُنْطَلِقٌ إلهُ الكَون. طَليقٌ أنا، طَليقٌ الإنسانُ، طَليقٌ إلهُ الكَون.