ما يؤلمني أكثر بعد رحيلنا عن منزلنا بشارع الأندلسية (باب الواد) القصر الكبير، هو هدم المنزل الكبير بمعماره الأسباني الفريد، واغتيال الذاكرة، ومحو الأثر. المنزل كان مميزا ببنياته الهندسية الفسيحة، وأعمدته الصلبة القوية، والقرميد الذي كان يحمي البيت في كل الفصول. لكن الأهم في هذا البيت ليس مجاورته للكنسية القديمة، والخضرة الشاسعة فحسب، بل لسقفه الكبير الذي كان مسكنا آمنا لبومة مينيرفا التي اعتادت لسنوات ان تقف في اعلى شرفة وتحدق إلي طوال الليل. كان الجيران يشتكون من نعيبها، ومن وجودها لكونها نذير شؤم، تجلب النحس، والسبب الأساس في كل الوفيات. ومقابل هذه الرؤى" الساذجة" كنت أشعر بسعادة لا مثيل لها حين تقف مينيرفا بسيقانها الناعمة، ومخالبها القوية، تنظر إلي بعينيها الواسعتين، وتحرك بشكل عجيب رقبتها رافعة منقارها الحاد إلى الأعلى. كنت أشعر بها تراني بوضوح رغم مايشاع انها لاترى الأشياء القريبة، وكانت الحوارات الصامتة بيننا لا تنتهي. كانت منفردة في لون ريشها الذي كان يميل إلى البني الممزوج بالأبيض، وكانت على مر سنوات طوال وحيدة ولم تنجب طيورا. ولأن بومة منيرفا لاتبدأ بالطيران إلا بعد أن يرخي الليل سدوله بتعبير هيغل، فقد أحببت قوتها الترميزية في الفلسفة الألمانية. وكنت أشعر بقلق كبير إن غابت مينيرفا الصامتة عني ليوم او أكثر، رغم إدراكي أنها كانت تحب السفر البعيد، لكنها بعد طول غياب تعود لنفس الشرفة تحدق إلي وتعتذر في صمت، لتعود في اليوم الموالي إلى نفس الشرفة وتبدأ القصيدة من جديد.