تقديم: "قصائد البوح"(1)، عنوان ديوان شعرالشاعر المغربي المهدي حاضي الحمياني. يقع الديوان في143 صفحة، ويضم 17 قصيدة طويلة ومتوسطة من حيث الحجم، وهي أشعار مختارة من ديواني " النشيد السري" "ومراثي العاشق" للشاعر، كما يضم الديوان بابين، وتمتد القصائد كرونولوجيا مابين1986 و05. في العنوان: قبل تسليط الضوء على العالم الشعري للشاعر المهدي، كما يطرحه الديوان، نرى أنه من الضروري الوقوف قليلا عند مكامن العنوان أو العتبة، ولا تخفى الأهمية التي يحظي بها العنوان في الدراسات النقدية الحديثة لدرجة أصبح معها عند بعض النقاد علما له موضوع ومنهاج خاص به. إن قراءتنا للعنوان تقوم علي توظيف قراءتنا الأولية للديوان، بحيث لم نقرأ العنوان بمعزل عن المتن الذي يفضي إليه، بل سنحاول الوقوف علي امتدادات هذا العنوان في باقي قصائد المتن، اعتبارا لكون العتبة تشكل امتدادا داخل البناء النصي. لعل أول سؤال يتبادر إلي ذهن قارئ هذا المتن هو: ما دلالة هذا العنوان ؟. أولا/ دلالة العنوان. يلاحظ القارئ أن العنوان يتكون من كلمتين هما: قصائد البوح. سنقف عند دلالة كل كلمة علي حدة. وننتقل بعد ذلك إلي دلالة العنوان ككل. جاء في المعجم العربي الأساسي أن قصائد جمع قصيدة: من الشعر(1). أما االبوح فهومصدر باح،نقول: باح بالسر بمعنى أفشاه أظهره(2). إذا ما حاولنا تركيب هذين المعنيين فإننا سنجد أنفسنا أمام الدلالة العامة للعنوان القائمة على أن الديوان مساحة شعرية/ تعبيرية، تفضي بنا إلى معرفة أوكشف أسرار الذات بخصوص قضايا إنسانية و اجتماعية و سياسية و فنية. ولعل ما يزيد من صحة هذه الفرضية بعض الإشارات التي يحفل بها الديوان. يقول الشاعر : "ها قد بحت بسري" (3) كما يقول في قصيدة أخرى" هاقد بحت بسري للندى" (4) ، ويضيف قائلا في ص /27"سأبوح للكون بأسراري".ويلاحظ هنا أن هذا البوح يخالف السائد، بقوة أزمنته وامتداداته إلى مجالي الطبيعة والكون. وغني عن البيان أن البوح يرتبط في أذهان الجميع بوجود طرفين اثنين: الأول: يقوم بعملية البوح الثاني: يقوم بعملية التلقي/ أو البوح المماثل لكن،يلاحظ القارىء أن الشاعر خرق هذه القاعدة حينما ارتأى مع نفسه ضرورة البوح بأسراره للطبيعة رمز الفطرية والسكون. ألا يشكل هذا الخرق سمة دالة تفيد انفتاح الشاعر على اللا نهائي؟. إن اختيار الشاعرللعنوان لم يكن وليد التلقائية، بقدرما أنه يضمر مقصدية جمالية ، إذ لابد أن تستمد نصوص المتن دلالتها من العنوان، وإلا ما استحق أن يكون عنوانا لها. ومعلوم أن الشاعر يلمح مند البداية إلى أن الأمر يتعلق بقصائد، جمع "قصيدة" وهي تحيل إجناسيا إلى جنس الشعر، بمعنى آخرينبغي على القارىء أن يعي منذ بداية قراءته الأولى إلى أنه أمام شعر يقوم على رؤية شعرية جديدة من حيث الفني والجمالي . وهي رؤية تراهن على التوحد بالتجربة الشعرية المغربية، خاصة وأن المهدي حاضي الحمياني قد راكم- قبل دخوله مجال الكتابة الشعرية - جملة من الإنجازات السردية القصصية منها والروائية. في المتن الشعري: يمتد ديوان "قصائد البوح" على مدى (143) صفحة، ويتضمن بابين كما سبقت الإشارة إلى ذلك، وكل باب يشمل قصائد متباعدة ومختلفة زمنيا ، الشيء الذي يدفعنا إلى الاعتقاد، أنها تمثل شعريا، امتدادا نصيا ثالثا يتوحد تقابليا بالامتداد النصي الأول "النشيد السري" الصادر سنة 1995، والإمتداد النصي الثاني "مراثي العاشق " الصادر سنة 2005،إنها فنيا امتدادات- شعرية - تؤسس نصيا لنفسها كما تؤسس لعلاقة جديدة- تتوسل بالبوح- بينها وبين المنجز الشعري المغربي و المتلقي على حد سواء. قضايا الموضوع: يتناول ديوان " قصائد البوح" في كثير من المواضيع، كما ينشغل بكثير من القضايا الإنسانية والاجتماعية والذاتية ، وهو بهذا يختلف و ينأى عن بعض الكتابات الشعرية التي تهتم ببعض جزئيات العالم وتقتصر عليها، من دون أن تأخذ على عاتقها شواغل جمالية تتعالق بذات العالم ، إن الأمر يتعلق هنا بتمييز شعري يراد به في صميم العملية الإبداعية" محاولة لتأسيس خطاب جديد يتعالق مع الكائنات والأشياء ويعيد صياغة علاقته بالكون"(5). إلى جانب احتفاء الديوان بالذات الشاعرة بكل ما ترمز إليه هذه الذات من حيث تورطها في العشق ، وما يرافق هذا العشق من حزن ، فإنه – أي الديوان- يتوغل في فضاءات أخرى أكثر حميمية. فاس التي في خاطر الشاعر والشعراء: لقد حضرت مدينة فاس في عديد من القصائد، وهو حضور يطرح الكثير من الأسئلة النقدية عن علاقة الشاعر بحميمية بعض الفضاءات خاصة إذا علمنا أن جزءا كبيرا من قصائد الديوان قد كتب داخل فضاء فاس، (13) قصيدة من أصل (17) . والحقيقة أن هذا الحضور يحبل بجملة من الدلالات. وغير بعيد عن السطوة التي تمارسها بعض الفضاءات على المبدعين، يحق لنا أن نتساءل ألم تنجب هذه المدينة شعراء مغاربة حملوا على أقلامهم ثقل القصيدة المغربية أمثال: الشاعر محمد السرغيني، وعبد السلام الموساوي، ورشيد المومني وعزيز الحاكم، وأمينة المريني إضافة إلى أسماء أخرى ساهمت في تطوير القصيدة المغربية وجعلتها في مقدمة كراسي الشعر العربي؟ ألا تجسد فاس تمثلا إبداعيا بوجه إبداعي متعدد ؟ والحق أن هذه السطوة تمثل دهشة خفية، تحيل نظريا إلى درجة الإلهام والسحر والافتتان بالفضاء الذي يتحول إلى محرض إبداعي لكل أنواع الكتابة خاصة الشعرية منها. العشق من أبواب الشعر: يأخذ سؤال العشق أبعادا ومستويات مختلفة حسب الشاعر ، و نوع التجربة. . ففي مجال الكتابة الشعرية، يمكن الحديث عن العشق الإلهي"و المعشوقة" و" العاشقة"...، لكن في ديوان "قصائد البوح" يلاحظ القارىء أن العشق يتسع ليشمل مجالات رحبة، الشيء الذي يسمح معه بالحديث عن عشق للفضاء بكل ما ينتظم بداخله-أي الفضاء- من كائنات أخرى. وغني عن البيان ما للعشق من جمالية تسهم بشكل جلي في تأثيث معمارية القصيدة الشعرية. يقول الشاعر مستعيدا صداقاته الغائبة : فاس التي عشقنا وبكينا كم قضينا فيها من وطر كم تسترنا على نزق فيها(6) ....................... إن هذا العشق بصوره الماكرة والخادعةكما يطرح نفسه في هذه القصيدة وقصائد أخرى، سرعان ما يتخذ لنفسه بعدا آخر لما تنصهر فيه صداقات الشاعر الإنسانية بفضاءات فاس وأمكنتها الموحية بالعتاقة أحيانا والحداثة أحيانا أخرى. كما أن الحديث هنا عن عشق فاس يلمح إلى أنماط أخرى مضمرة من العشق، فمن خلال قراءة الديوان، يتضح أن سؤال العشق ينفتح على أسئلة الرثاء والحزن إلى درجة التماهي. يقول الشاعر: توزعتك مغارات التيه فهاجرت إلى الأناشيد البعيدة تحملت حتى كدت أسقط عند المنعطف الأول(7) وإذا كان الرثاء في بعض التجارب الشعرية القديمة منها والحديثة يشكل مكونا نصيا من مكونات القصيدة التي يراهن من خلالها الشاعر على تعداد مناقب المرثي، فإنه في ديوان"قصائد البوح" يجد القارىء نفسه أمام رثاء للذات. وبغض النظر عن طبيعة هذا التداخل،نشير إلى أن هذه السمة إنما تعكس وجها إحتفائيا وتمجيدا لذات الشاعر على طريقتها الخاصة . فنموذج مراكش الحمراء مثلا ينتصب بارزا ومنحنيا بين صفحات الديوان. يقول الشاعر: ها مراكش تفتح بوابات الشمس طقوس الشهوة للقادم من مدن الثلج وغابات الصقيع تفتح أذرعها للأفاقين والنبلاء تطعمهم فقرا وحشيشا(8) بالرغم من أن الرثاء تعداد لمحاسن الميت وثناء على أعماله، فإن الشاعر المغربي المهدي حاضي الحمياني قد جعل من قصيدته هذه، إطارا لنقد قضايا تتعلق بالحياة، وهو ما يعكس طبيعة ونوع بصيرة الشاعر التي تنفذ إلى أعماق الإنسان والقيم من خلال عين راصدة. خلاصات: وبناء على سبق يمكن استخلاص ما يلي : 1 حرص الشاعر على جعل غرض العشق والحزن والرثاء إطارا تعبيريا ليس فقط للبوح بل للكشف عن كل ما هو إنساني ومجتمعي و أخلاقي. 2. حرص الشاعر على تنويع قصائده بقضايا إنسانية وأخرى قومية. 3. حرص الديوان على تضمين القدرة الجمالية التي ينتصر لها الشاعر في نظرته لوظائف وجدوى الشعر. وعموما يمكن اعتبار ديوان الشاعر المغربي المهدي الحاضي الحمياني من الدواوين الشعرية الجديرة بالقراءة، بالنظر إلى ما يتضمنه من ملامح نقدية صيغت في قوالب شعرية بطريقة فنية خاصة. إن سؤال جمال القصيدة الشعرية لم يعد يقتصر على التصوير الشعري، أو التشكيل اللغوي وما يلازمه من بناء، بل امتد هذا الجمال إلى مجالات أخرى من قبيل، التنويع في الموضوعات، والتقاط بعض المعاني المطروحة على قارعة الشعر ومراعاتها لأفق الوقع والتلقي، وكذا البحث عن الشكل الشعري الأنسب للتعبير عن الهوية من داخل التعدد الذي تنتصر له. إن الشاعر المهدي، بديوانه "قصائد البوح"، يكون قد فتح المجال أمام التلقي لمعرفة مدى ما باتت تشكله القصيدة المغربية من قوة وفاعلية وتأثي، في الوقت الذي أخذت فيه هذه القصيدة تتحرر من بعض الموضوعات الجاهزة والمكرورة في الزمن الشعري المغربي، لتفسح مجال الانتشار لتجارب شعرية مغربية محترمة غطت الفضاء العربي بأسئلتها وقلقها. الهوامش (1)" قصائد البوح"،أشعار مختارة، المهدي حاضي الحمياني، مطبعة أبي-فاس، الطبعة الأولى2007. (2) المعجم العربي الأساسي، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ص: 989. (3) المرجع نفسه، ص: 183. (4)" قصائد البوح"،أشعار مختارة، المهدي حاضي الحمياني،ص17، مطبعة أبي-فاس، الطبعة الأولى2007. (5) "عبد الله الغذامي والممارسة النقدية والثقافية"،تأليف جماعة من الباحثين،ص17، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الأولى، ص2003. (6) "قصائد البوح"،أشعار مختارة، المهدي حاضي الحمياني،ص92، مطبعة أبي-فاس، الطبعة الأولى2007. (7) ) المرجع نفسه، ص:72. (8) ) المرجع نفسه، ص:101-102.