تساءلت مع نفسي في احد الأيام بعدما ركنت سيارتي إلى جانب المؤسسة التعليمية التي درست بها الطور الابتدائي، و أنا استحضر الماضي متمعنا دخان سيجارتي التي وضعتها على منفضة السيارة و هو يتراقص في الفضاء... - لما يقولون عن السيجارة إنها لفافة قاتلة..؟ بل بالعكس، أرى أنها ممتعة و مفعولها سحر جذاب لا يقاوم..قد تكون بالفعل قاتلة و هذا لأنها تقتل في الإنسان همومه، وتقوم على تبديد هواجسه حتى يصفى ضبابه و يعود لمزاجه ليس إلا. أما ما يروج عن سلبياتها كعنصر مضر بالصحة و كذا بالجيب، فهذا ليس له تأثير علي ، فصحتي ولله الحمد بخير و الثمن الذي أقتنيها به يعد بالنسبة لي زهيدا لا يساوي واحد في المائة من مصروفي اليومي. قصتي مع السيجارة أيها الكرام بدأت من هنا...من داخل هذه المؤسسة التعليمية الصغيرة، تعود أحداثها لزمن غابر في حياتي حين كنت يافعا في ربيع عمري، أيام الدراسة، حيث كنت و شلتي من أصدقاء الطفولة نتباهى فيما بيننا في استعراض فحولتنا على الفتيات ممن كن يدرسن معنا في المؤسسة. آه كم كانت تلك الأيام حلوة، وكم كنت أيامها جريئا على فعل أي شيء أيا كان نوعه و عاقبته. كنت أحب دائما أن أكون مثل أبي، الذي من فرط إدمانه التدخين أفرد للفافته حيزا بين شفتيه لا تبارحه إلا للضرورة القصوى، ومن هنا ترسخت في ذهني فكرة أن شرب السجائر يعد رمزا من رموز الرجولة وأن شخصية الرجل الفحل لا تكتمل إلا به. كم كنت انتشي حينها حينما أسطو على علبة سجائر أبي في غيابه وأقتلع منها سيجارتين أو ثلاثة، و في فترة الاستراحة انزوي تحت شجرة "الكليبتوس" وأخرج معبودتي أمام الملأ من التلاميذ و التلميذات و أضعها وسط ثغري، ثم أقدح فيها زنادا من الكبريت و أمتص دخانها تاركا له المجال لزيارة رئتي و مداعبتهما. وما إن اكتمل اندماجي في ملكوت الخيال الشاسع في استعراض شريط ذكرياتي الماضية، حتى هببت مذعورا من هول حريق شب لتوه بين أقدامي، فتحت باب السيارة و هرولت للخارج استجدي النجدة من المارة و لهيب النيران ملتصق بمعطفي و منه إلى سائر جسدي. أما سيارتي، فبقدرة قادر تحولت إلى خردة من معدن صدأ بعدما أتت النيران عن كل شيء جميل بها. في المستشفى و أنا أعاني حرارة الألم، تسمرت عيوني على شيء لطالما استهزأت به: يافطة وقد كتب عليها "ممنوع التدخين، السيجارة تقتل" فوددت لو علقوني بجانبها و كتبوا فوق رأسي اسألوه فهو من ضحاياها.