من أشهر معاني الديمقراطية أنها حكم الأغلبية ، وهذا حال راق ، به تستقر الأنظمة وتسكن الأنفس. ولكن تكمن المفارقة والمغالطة السياسة في هذا التعريف انه يخفي ورائه ظلالا وهباء ، فعن أية أغلبية نتحدث؟ ان القصور الوحيد الذي يكتنف الديمقراطية ويؤرق الوعي السياسي الذي تقوم عليه _ منذ الارث السياسي اليوناني ، الى أعتى الديمقراطيات اليوم _ هو اشكالية الأغلبية . فمن يظمن لنا سلامة حكمهم وصلاحه ؟ وبمعنى أدق ، هل الأغلبيه دائما على صواب ؟ ماذا لو اتفقت على الخطأ وتواطأت عليه ؟ من سيسمع صوت الأقلية ويتحرى فيه الصواب ؟ ان مشروعية هذا الكلام ، تصدق اذا قارناها مع الواقع الممارساتي للسياسة ، خاصة في مجتمعنا . حيث تحمل الديمقراطية معاني أخرى ، وتترادف مع شكليات فارغة من المعنى والدلالة ، كالاقتراع ونسبة المشاركة والعزوف وعدد الأحزاب.... أي تصبح الممارسة الديمقراطية أرقاما ونسبا مئوية ، عظام لا يكسوها لحم ، رماد بارد فقد حرارته... في مجتمعنا نحرق اشواط الممارسة السياسية ، وهذا يتجلى كلما اقترب شوط الانتخابات ، حيث نكتفي بالشوط الأخير ، باعتباره حسم في النتيجة. أما الشوط الأول فلا احد يبالي به ، حتى الاعلام لا يبالي ، بل حتى السياسيين أنفسهم . انه في الأ صل عماد الديمقراطية الحقيقية ، فبه قوامها و عليه تتأسس، ويتجلى في الوعي الديمقراطي الذي يسبق أية ممارسة . ان شخصا يتجه الى صناديق الاقتراع ليدلي بصوته ، مواطن صالح يمارس حقه في التصويت ، لكن الشيء غير العادي في هذا الحق أنه حق ناقص ، اذا كان صاحبه لا يعرف أصلا لماذا يصوت ، ولمن ؟ ولماذا ؟ ... وبمعنى أدق لا تمتع بالحق الا بمعرفته ، وهذا هو العدل ، أي ألا اختار الا اذا كنت حرا حرية كاملة ، حيث العقل غير مستلب بالأوهام ، والجسد غير مكبل بالأصفاد... أما الأمية والجهل فلا يقودان الا الى المجهول . ففي مجتمع تسري فيه الأمية والجهل ، لا ديمقراطية حقيقية ، ولا ممارسة سياسية ناجحة. حيث لازالت العلاقات القبلية والقرابة ، والمصالح الشخصية ، وأحزاب العائلة ... هي أساس العملية السياسية . وليس المشاريع السياسية والاقتصادية والاصلاحية ، أما الوعي بأهمية الديمقراطية وبضرورة المشاركة في الفعل السياسي ، فغاية لا تدرك الا بمحاربة الجهل والأمية اللذين ينخران جسد المجتمع . وعليه ، يجوز القول أن العدو الوحيد للديمقراطية هو الجهل : انه في مرتبة النقيض ، ولا يجتمع النقيض بنقيضه. وهراء يدعي البعض لما يتحدث عن اقبال افراد مجتمعنا على الممارسة السياسية ، اذ الممارسة ليست بالأرقام ، لكن بالأذهان أولا . بمعنى الوعي بالفعل ، أما الصفوف المزدحمة أمام صناديق الاقتراع ، فليست هي الديمقراطية : انها أشبه بالاصطفاف بلا سبب، مادام ذلك فارغ من المعنى والقصدية . ان نتائج الممارسة السياسية بهذه الوصفة ، محددة سلفا ؛ فمادامت الأغلبية من الأميين ، بسبب تفشي الجهل ، فان الديمقراطية في أرقى صورها ستجعلنا تحت حكمهم واختياراتهم غير المبنية على أساس اقتصادي أو سياسي ،بل على أهواء وميولات شخصية منحطة ؛ فلماذا اذن نتعب أنفسنا في زحمة الصفوف ؟ واذا أظفنا الى هذه السياسة الجافة ما يمكن أن نسميه إعادة انتاج خطاب الأحزاب ، تصبح ديمقراطيتنا بنكهة خاصة ، محلية بشكل كلي . ان الأحزاب السياسية ، مع احترامنا لها جميعا، لا تتقن في السياسة الا لغة الأرقام وجمع الأصوات ، بمعنى أنها لا تناضل لتغيير الوضع نحو الأفضل ، عبر مشاريع طموحة بعيدة المدى ،بل تقوم بتكريس الواقع واعادة انتاجه ، وتسطير بعض العوارض في الاصلاح ، لا يطلع عليها أحد ، اما الوسيلة المتبعة فتكون في البحث عن كل الوسائل الممكنة لاستمالة الناخبين ، فالغاية تبرر الوسيلة ، وباعتبار الأمية سارية ، فهي من بين الوسائل المتاحة , أي استغلال جهل الناس للبحث عن وصفات ملائمة لكسبهم ، ولا حرج ان كانت دراهم معدودة أو وعودا بحاجيات... ولا ندعي في الفقر سببا ، الا ان كان مجتمعا مع الجهل ، حيث يتجلى الشر كله ، فتصبح الديمقراطية ممارسة لهذا الشر وتفعيل له . هكذا اذن ، نرى الاصلاح الحقيقي في اصلاح واقع الناس ، لينضج وعيهم بوجودهم وبأهميتهم ، بأفعالهم وبممارساتهم . أما اسقاط ممارسات سياسية من عل على واقع ووعي جافين ، فليس الا مضيعة للوقت ، فالديمقراطية تبنى ، ولا تعطى جزافا ؛ وهي ممارسات يومية مترسخة في أذهان الناس ومتجلية في سلوكاتهم. وليست زينة نلبسها في مناسبات ، أو طقوسا جافة بلا معنى ؛ يزاولها بعض السباتيين كلما ارتفعت الحرارة ، ويعودون الى أكواخهم اذا اشتد البرد ... ان الممارسة الديمقراطية اذن ، لا تقوم الا بنشر الوعي السياسي ، إذ لا يعقل ان يمارس الأفراد فعلا لا يدركون طبيعته ؛ فالسياسة اشبه باللعب بالنار ، لا يتقنها الا من يمارسها . ولا ندعي هنا ضرورة حذق الجميع في علوم السياسة ، فهذا أمر لا يبلغ ، ولكن نؤكد على أهمية نشر مبادئ السياسة واشاعتها ، لما في ذلك من سمو بفعل الممارسة السياسية . لكن ما السبيل الى ذلك ، والأمية تنخر جسد المجتمع ؟ ان المواطن المسكين – مع التساهل في حمولة كلمة مواطن – لا يعرف من السياسة ومن الديمقراطية الا التوجه الى صناديق الاقتراع ، للادلاء بصوته لفلان او علان ، اي لشخص معين من القبيلة و العشيرة ،او لشخص يرى فيه تلبية لحاجة آنية ، او يلتمس فيه مقابلا ماديا مباشرا ، او ينتظر منه الوفاء بوعد ما ... وحاصل القول ان كل شخص يمارس فعلا – نسميه سياسيا – لمصلحته الشخصية الآنية ، وهكذا تكون الأنانية ؛ فتصبح بذلك الممارسة السياسية عندنا ممارسة للانانية ، وهذا مناقض تماما للديمقراطية ، وللعمل السياسي النبيل . وليس هذا يخص عامة الناس فحسب ، بل هو ضالة الفاعل السياسي الذي ينصب نفسه نموذجا يراد به الاصلاح . لقد وضعت السياسة وابتغي بها تدبير الشأن العام ، فأصبحت -بنكهة الجهل والأنانية – تدبير للشأن الخاص بالفرد . فكل منا وحاجته الخاصة الآنية في الفعل السياسي ، ولا أحد منا له حاجة عامة تتجاوز ظل مشيته . فاسأل صفوف الناخبين ، تجد لكل واحد حاجته الخاصة ، ولا تستغرب ان كانت حتى تافهة ، بله ان تكون للمصلحة العامة . حاصل القول ، وليس الفصل فيه ، ان الممارسة السياسية الديمقراطية ليست بالأمر الهين ، وليست بالارقام ، بل بالأفعال المصحوبة بالوعي ، فكل فعل نتج عن جهل الا وناقض العدالة ، وخالف ادبيات الفعل السياسي الحقيقي والبناء . فالديمقراطية ،كل الديمقراطية ، لا تترادف مع الجهل والأمية ؛ ولا تنمو وتتفرع وتعطي ثمارها الا في بيئة ملائمة وخصبة تتغدى بالوعي والعلم والمعرفة ، ونكران الذات والتحلي بالغيرية ، والتخلي عن كل أنانية متوحشة . الديمقراطية اذن ، مفاهيم ذهنية ، قبل ان تكون ممارسات موسمية ؛ وان لم نفهمها وننشرها كذلك ، نكون أقرب الى النفاق السياسي ، ويمكن ان نسميها اي لقب آخر غير الديمقراطية . فيكون مجتمعنا بذلك – بل هو بالفعل – ابعد ما يكون عن الديمقراطية الحقيقية ، وهذا يظهر في سلوكاتنا كل يوم ، في حركاتنا وسكناتنا ؛ اذ لا يمكن فصلها جميعا عن الفعل الديمقراطي . باعتباره في الواقع مترادف مع الحرية والحق والمساواة والاحترام والاختلاف .... وكلها مفاهيم غريبة عن يومياتنا وعاداتنا . فلا ديمقراطية اذن ، الا باعادة النظر في واقع الناس ، واشاعة اسسها الكفيلة بالرقي بالفعل السياسي الى مستواه الحقيقي ، اي ضرورة بناء المواطن السياسي ، وتجاوز تقافة الحشود والرعايا ...