كان عدد المسافرين قليلا على متن ذلك القطار الليلي في تلك الليلة الشديدة البرودة، نساء بأجسام مصارعي "السومو" لكثرة ما لففن حولهن من أثواب مهربة، و بوجوه نحيفة متعبة خائفة، و رجال استسلموا للنوم باكرا دون خوف من السرقة خاصة بعد أن تكفل الزمن ب"تكشيطهم"، و شبان ما إن يبدو لهم طيف مراقب التذاكر حتى يخرجوا من الأبواب و ينحشروا بين القاطرات معرضين حياتهم للخطر بسبب دريهمات قليلة هي ثمن التذكرة. كان "مراد" يرقب كل هذا عندما فاجأه صوتها: – مساء الخير. خاوية آخاي؟ أجابها بصوت يكاد لا يسمع: – طبعا. تفضلي! في لحظات الصمت الأولى دار برأسه سؤال كبير: لماذا اختارت الجلوس معه و أغلب مقاعد القطار فارغة؟ لكن الجواب سرعان ما جاءه عندما أخبرته أنها تخاف السفر وحيدة، و أنها توسمت فيه الخير الثقة و الأمان، شعور لذيذ سرى في عروقه و هو يجد نفسه "حامي الحمى" و مسؤولا عن أنثى جميلة، لهذا لم يتردد في اغتنام أول مرور لعربة المشروبات و الأكل ليسألها ماذا تريد أن تشرب، طلبت قهوة و كذلك فعل، و لم يبال بالعشرين درهما التي دسها في جيب النادل، أحس بالأدرينالين ينساب غزيرا في عروقه و هو يرى تجاوبا كبيرا منها، بل كانت هي المبادرة للسؤال عن كل كبيرة و صغيرة متعقلة به، -دخلتيلي لخاطري و ولاد الناس بحالك قلال بزاف. عرف أنها عاملة بأحد معامل طنجة، و أخبرها أنه موظف حديث التعيين بعروس الشمال. أحس أن الورود نبتت على الكراسي الخشبية، حتى هدير عجلات قطار الدرجة الثالثة أصبح موسيقى ناعمة، قبل أن تباغثه بالتوديع في محطة سيدي قاسم، فقال بصوت مفجوع: -صافي وصلتي؟ أخبرته أنها ذاهبة لمكناس و أن عليها تغيير القطار الآن. قبل أن تضحك بعذوبة و تقول: -ما سخيتيش؟ كان كالطفل الذي أضاع أمه، كاد يبكي، قبل أن يجمع شتاته، و يسألها: – و اللي بغا يشوفك؟ و كأنها كانت تنتظر السؤال أجابته: -الأحد القادم، في حديقة العمالة بطنجة، ثم افترقا. عاد إلى طنجة بعد يومين، و انتظر الأحد بصبر نافذ و بأعصاب تالفة. و ما زاد في توتيره أنها لم تخبره بوقت اللقاء، لهذا كان طبيعيا أن يتواجد منذ الصباح بالحديقة المترامية الأطراف و هو في كامل أناقته، مرت الساعات و هو يرقب طيفها، فتك به الجوع لكنه خاف قدومها إذا ذهب للبحث عن الأكل، و عند منتصف الليل غادر الحديقة و هو في حالة انهيار. في الأسبوع الموالي عاد، فربما منعتها ظروفها من القدوم في المرة الأولى، لكنه أضاع يومه دون طائل، و كان لا بد أن تمر أسابيع حتى يتوقف عن الذهاب للحديقة. لم يستسغ أن يضيع منه "حلم حياته" بهذه السهولة، هو يعرف أنها تعيش معه في نفس المدينة، و ربما تبحث عنه كما يبحث عنها، ربما ترتاد نفس الأماكن التي يرتادها، لا شك أن وقفت في سور المعكازين، أو اشترت شيئا من فندق الشجرة، أو تسكعت في "السوق دبرا" أو "شقلبت" الملابس المستعملة في "كاساباراطا". لهذا قرر أن لا يستسلم، فبدأ أولا بقيسريات شارعي المكسيك و فاس، فالأسواق تجر النساء كما يجذب الميغناطيس قطع الحديد، و عندما أعياه الأمر انتقل لمحلات بيع البتزا، فهو يعرف إدمان الفتيات على الأكلة الإيطالية، ثم جرب البحث عنها في "البولفار" بداية من قنصلية فرنسا وصولا لمالاباطا، ثم انتقل للبحث في محيط معامل مغوغة و طريق العوامة و الميناء، بدأ حماسة يفتر بمرور الشهور دون أن يتوقف، عرف أن القدر سيجمعهما مرة ثانية كما جمعهم في الأولى، و عندما فقد كل أمل حدث ما لم يكن ي الحسبان. فقد كان يستعد لركوب القطار عندما لمحها على الرصيف، كاد يجري و يعانقها و يبكي، لكنه انتبه أنها تدفع عربة بها طفل، و بجانبها رجل يبدو أنه زوجها، أحس أن عالمه ينهار، و مر وقت كاف قبل أن يلتئم الجرح. الآن و بعد مرور سنوات طويلة ليس متحسرا إلا على شيء وحيد: -أن قصته "الملحمية" وقعت قبل عهد "البورتابل" و إلا لكان متزوجا بها الآن و لكان الولد الذي في العربة ولده.