سألوني منذ ثلاثين سنة مضت عن مصير ذلك الشيء الجميل ، فأجبتهم إنني طمرته تحت أكوام من التراب في قعر الماضي ، وأكَّدت لهم أن عملية طمره فيها فائدة نحن الإثنان ، سنُريح ونستريح ، عجبوا أن انتهت الحكاية على هذا النحو ، إلاَّ أن الأمر صار عكس ما توخيته تماماً ، لا أخفي أنني تألمت وعانيت ولحقني أذىً كبير جرَّاء فقدانه . بعد ذلك ، لجأت إلى سبُل شتى آملاً أن أجد فيها بديلاً له ، فجرَّبت السّكر والعربدة والتَّوه والشرود إلى أقصى حدّ يمكن بذلك أن ينمحي من ذاكرتي . مسألة الذاكرة هذه إذا كانت قوية ، يقولون إن صاحبها يشقى كثيراً خصوصاً إذا كانت لديه ذكريات مريرة . مع مرور الوقت ، جعلت نفسي أتناساه ، لكن طيفه يطفو من حين لآخر على سطح حياتي ويقلّب أجواء حالي إلى ما هو أسوأ . وهكذا جعلتُ حياتي تأخذ قسراً منحىً آخر ، فتوالت عليَّ السّنون ليحلَّ الكبَر والشيب محل كل الأشياء الجميلة . إضغط على الصورة لمشاهدة الحجم الكامل وفي أحد الأيام ، خرجت ليلاً أتجوَّل على جنبات الشارع الكبير متفرجاً على أنواع السلع الخارجية المعروضة على الطوار للبيع . وإذا بصوت يقول لي في استخفاء واستحياء : " اسمح لي سيدي ، أنت من مدينة *** ؟ قلت : " نعم " قال : " واسمك السيد *** وينادونك السي *** ؟ " قلت : " هو كذلك ، ولكنني أجهل من تكون ، وإن كنت أعرفك ، فإنني لم أعد أتذكرك ، فمن أنت ؟ " قال : " أنا هو الشيء الجميل ، أتذكرني ؟ " . دوَّى جوابه كالرَّعد في أذناي وأحسست بالأدرينالين تموج في أنحاء جسمي . قلت ويداي على رأسي : " ألم أحسن طمرك يوم دفنتك ؟ أنت بعودتك ستؤلّب عليَّ المآسي من جديد بعد أن هدأت حياتي ، ماذا تريد منّي ؟ يا لهذا الزمان الذي غيَّر شكلك ، ولكنَّ جمالك أقوى من الزمان نفسه فاحتفظتَ بملامحه " . أردت أن أحكيَ له كلاماً كثيراً دفعة واحدة ، فشُلَّ لساني تحت نظراته وتحت أشياء اسمها الحيرة والندم والضعف . حاولت مواصلة الحديث فقاطعني ليلتمس مني الصفح عن بعض الأذى الذي سبَّبه لي في وقت سابق فنزلت عند رغبته ، أردت استفساره عن أمور كثيرة كموئله ومآل عيشه ، لكنه اختفى وسط جموع الناس الذين غصَّ بهم الشارع . لم أتمكَّن من متابعته لنقصان بصري وقلة الضوء . وبدافع شيء ما بداخلي ، قرَّرت البحث عنه ، فصرت أركض جيئة وذهاباً في كلّ الاتجاهات لمدَّة فاقت ساعة زمن حتى أنهكني العياء ، فجلست إلى طاولة في مقهىً يمين الشارع . طلب مني النادل كعادته : " ماذا تفضل اليوم سيدي ؟ " قلت : " أحضر لي أيَّ شيء من فضلك " غاب لمدة عشر دقائق ليعود بكأس من الماء وضعها أمامي ، وحيث كنت أبكي وأمسح دموعي ، انحنى إليَّ وقال : " ما بك سيدي ؟ هل يؤلمك شيء ما ؟ هل أستدعي لك سيارة إسعاف ؟ " قلت : " نعم ، يؤلمني الشيء الجميل " أقسمَ أنه لم يفهم شيئاً ، واستأذن ليخدم زبوناً آخر وصل على التوّ . استجمعت أنفاسي وتذكَّرت الحظ اللَّعين الذي لا يحبّني ، فمؤخراً سألني شخص يعرفني عن قرب : " لماذا يعاكسني الحظ دائماً ؟ " لقد صدق ، الحظ وأنا لا نلتقي أبداً ، أحبه ومع ذلك فهو يكرهني ، بل يرفض حتى مجرَّد النظر إلي . هذا أمر غيبي لا أمتلك جوابه اليقين ، فقد أكون ورثته عن أحد أصولي ، أو قد يكون الله أمره أن يجنُبني إلى حدود الساعة ، وقد أكون كما يُقال من الرجال النّحوس . ذ.أحمد أوحني صوّت(ي) للقصَّة في الحوار المتمدّن - ادخل(ي) من هنا