و نحن نرتشف الشاي عند مدخل منزلنا تجاذبنا أطراف الحديث، و تذكرنا زمنا قديما كنا فيه أحسن الجيران و أروع الصديقات، فبدأنا نخوض في غمار السنوات و ننبش بين ثناياها ، و شيئا فشيئا بدأت خيوط قصتها تنسج نفسها بنفسها ربما كنتيجة حتمية للجو الرطيب و النسيم العليل المحيط بنا، و حتى لجلسة الشاي التي نظمتُها كما ينظم الشاعر بعناية قصيدته ... تجاهلتُ عنوة دمعة غائرة تلألأت وسط عينيها الكبيرتين السوداوتين و التي نجحتُ في أن أجعلها تظن اني لم ألحظها، و هي تشير إلى قسوة وجفاء زوج "رغم أنه و في رأي أغلب الناس مثالا لكرم الأخلاق و الرقة و اللباقة في التعامل مع الكل و خاصة مع النساء بشهادة الموظفات اللاتي تشتغلن معه في نفس الشركة" و هذا تعبيرها . استمعت اإليها باصغاء دون أن أنبس ببنت شفة حتى لا أصب الزيت على النار (و هذا وللأسف الشديد ما يمارسنه العديد من الصديقات مع بعضهن بحجة المواساة ) حتى لا أقسو عليها أنا الأخرى بالإضافة إلى قساوة زوجها حسب قولها ... لكني أذكر أني لملمتُ حزنها و جراحا فَتَحَتْها بأن صرفتُ الموضوع إلى الاتجاه المعاكس بحيث رغبت في حبس الجانب المرير في حديثها و تحويل مساره بسردي لنكت في نفس السياق لكنها تسخر من قضيتها بلطف حتى لا أقع في فخ الاسفاف ، هذه الأخيرة انسابت مني انسيابا عجيبا لتطلق هي بدورها قهقهات رنانة جلجلت في مدخل بيتنا و فرحت بها حتى نباتاتي و التي كما يبدو هي حنونة مثلي كما لو أنها كانت تصغي إلى وجعي أنا ... كافأتني جارتي بأن أعلمتني أني قد أصلح لأن أكون مصلحة اجتماعية و نفسانية أرمم كسور النفس و استبدل مكانها فرحا و لو مؤقتا .. لكن ما أن حان موعد رحيلها و همَّتْ بركوب سيارتها حتى بادرتني قائلة: " و أنت يا جميلة لم نسمع لك يوما قصة عن زوجك... حْنا اللِّي كَنْفرْشُو راسْنا مْعاك و لكن أنت راجْلك وُلد الناس الله يخليكوم لبعضياتكوم "... أجبتها بذكاء امرأة تفهم رفيقة في نفس الدرب لأني شممت مرادها و منحتها جوابا في نفس اللاتجاه حتى لا أتهم بالشرود :"آآآمين احنا و اياكوم الحبيبة دقلبي .." و ربَّتْتُ على كتفها قائلة "إيوا الله يْرْحَمْ الطاهرة اللي عْمْلت الشْوى من القْرْع و الكَباب من المْلوخية و الكفتة من الدّْنْجَال" ههههه.. ... و سير ابنتي طريق السلامة." و كعادتنا أكملنا الحديث عند نافذة السيارة و في كل مرة تقرر هي الرحيل نجد أنفسنا نبدأ موضوعا آخر يجذب صديقه و هكذا حتى نضطر إلى الوداع مكرهات غير راغبات في ختم متعة الحديث و متعة الذكريات . سلام الله عليك و أما بعد. "...لم أرغب في مقاطعتك عزيزتي وإخبارك بأنه ليس عليك أبدا اعتبار زوجك محور الكون أو مصدر طاقتك و عاطفتك الوحيد... نحن نستمد الحياة من كل أركانها المختلفة و المتشعبة... الكثير من حب الله ؛ حب الوالدين و حب الأزواج؛ الأبناء ؛ الجيران؛ الأقرباء؛ الأصدقاء؛ قيمنا؛ ثقتنا بأنفسنا؛ تفويض أمورنا الى رب العالمين ..إلخ . أما و أن تحصري ذهنك في شخص واحد و تحسبيه منبع سعادتك الوحيدة فأنت بذلك ستحصدين الريح حتما ... كما أنك حين تكثرين من التذمر و الشكوى و انتقادك المتكرر لزوجك سيكثر دلاله و نفوره لأنه لن يكلف نفسه عناء التغير لأجلك لأنه يضمن ارتباطك به رغم كل حرائقه و نقائصه لأنك أوحيت له باهميته المطلقة ... داويه يا صديقتي بالتي هي الداء... أو ليس الداء هو اللإهمال... أهمليه يا عزيزتي فما يضير الشاة بعد ذبحها و وَسِّعي دائرة اهتماماتك ...مثلا اشربي الشاي مثلي هههههه و ابحثي عن البشرى في حياتك.. أو ليس لك أبناء؟ علميهم كيف يقولون لك شعرا كله حب وكلام معسول و طَعِّمِي به كبريائك ..استمعي كل صباح إلى السيدة فيروز و هي تتغنى بالحب و تزدريه أحيانا و تقول له "مش فارقة معاي" ...و ردديها أنت الأخرى، أوليست اللامبالاة فلسفة ذكية تأتي بثمارها مع ثقيلي الفهم و الإحساس وتجعلهم يعيدون حساباتهم مع الحياة ... أعلمُ جيدا أن" المراة تعيش بأذنيها " عبارة ثاقبة رددتيها مرارا و أنت تدافعين عن نفسك ...كم كنت أنا الأخرى أومن بها حتى انقلبت عندي الآية عندما نضجت العواطف و اكتفشت كيف أن الصماء تعيش سعيدة أكثر مني لأنها اعتمدت على مبدأ الإحساس بجمالية الأشياء التي هي بين يديها.. نحن لا نقبل الصدقات و لا نشحت ما نستحقه يا عزيزتي .. بل نأخده عنوة ... يكفي أن نتلمسه و لو في الصريم و لا نضيع الفرص القريبة منا بل نستغلها لإضفاء السعادة على حياتنا و حياة من هم في حاجة دائمة إلينا و ليس أولئك الذين لا يتذكرون وجودنا إلا عند حاجتهم إلينا .. الحب ليس بالضرورة كلمات "ليست كالكلمات" و في كثير من الأحيان تكون هذه الاأخيرة تصب في وادي" كلام الليل الذي يمحوه النهار " لكن قد يكون مواقفا إنسانية و التي هي سيدة الكلمات وأفضلها و خاصة حين تفوح منها رائحة الرجولة و المروءة و الكرم و الحضارة .... هذا ما أوصلتني إليه تجربتي في الحياة " اللِّي تْهَرسْلو مْنْجْلو يْعْمْلْ مْنُّو مْحَشَّة".. لكن إن اختلفتُ معكِ جارتي فهذا لا يعني أن تحرميني شرف زيارتك لي بين الفينة و الأخرى " فعندي تين و لوز و سكر نغني فأنت وحيدة و إن الغناء يخلي ليلك اقصر " و أخيرا أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه ♥ ♥