بينما أنا أتصفح على الحاسوب بعض المواقع الإلكترونية ،فإذا بي أجد في الموقع الإجتماعي " الفايسبوك" صورة كاريكاتورية ملونة بألوان الطيف الجميلة ،صنها أحد الناشطين على هذا الموقع ، إنها صورة تثير الإنتباه وتجعلك تضحك لعمق دلالتها رغم بساطة لغتها وسلاسة أسلوبها ، فمعناها عميق يفهمه العارف من الناس و البسيط في معرفته منهم ، ولايشك فيه مسلم ولا يغتاب به مؤمن . الصورة لأستاذ يعلم تلامذته في القسم ويكتب على السبورة تصريف فعل من الأفعال وفق الضمائر المعروفة و المتداولة في اللغة العربية: أنا أنتخب أنت تنتخب نحن ننتخب أنتم تنتخبون أنتما تنتخبان هم يسرقون وعند إنتهائه من قراءتها و شرحها وبعد ترديدها من طرف التلاميذ ، يقول لهم الأستاذ: "فهمتو ولا نْعاودْ "؟ ولا من مجيب كلهم ينظرون إلى السبورة ، فهم فهموا وصمتهم خير دليل على ذلك ، وأرادوا أن يوضحوا له أنهم لم يفهموا ،كما أن أستاذهم فهم أنهم يناورونه ويفهمون جيداً رسالته من هذا الدرس . فهل يعجز الفاهم عن الإفهام ؟ الحقيقة أننا فهمنا بالملموس وليس بالمجرد ، وبالوجود بالفعل وليس بالوجود بالقوة أو الهيولة كما يقول أرسطو ، أن السرقة في شتى أشكالها تعبير صريح عن فساد المجتمع والدولة وأن كل من يلج عالم السياسة والإنتخابات غالبا مايكون بطرق ملتوية ، وفي نيته زيغ وحب لجني الأموال و الثروات ،حتى ولو وظف كل ماهو مشروع وما هو غير مشروع للوصول إلى مبتغاه ولإرضاء نزواته وميوله بغية الوصول إلى السلطة ، صدق أحد المفكرين حين قال :" لقد أبدعت كل العلوم فنونا جميلة إلا السياسة فقد أبدعت وحوشاً"، فقليلاً ماتجد من النزهاء والشرفاء من لهم غيرة وحب لهذا الوطن العزيز على أنفسنا شئنا أم أبينا، للدفاع عنه بكل عزيمة وشرف قصد الحفاظ على استمراري بقائه بين الأوطان ماديا ومعنويا. فهذا لا يمكن أن يصير إلا بمحاربة الفساد و المفسدين وإماطة نفوذهم وتسلطهم عن طريق تقدم المجتمع ورقيه. لكن بأي معنى من المعاني يمكن القول إن شعبنا يحب الفساد ويريده؟ وهل محاربته تقتضي أن نعاقب المفسدين لأخذ العبرة، أم السكوت عليهم وتمويه الرأي العام بمنطق السيد رئيس الحكومة "عفا الله عن ما سلف "؟ وهو منطق ديني محض و مغلوط لم يفهم في سياقه وأصبح شائعا فيما بيننا وفق فهم عامي يراج في أوساط العامة من الناس بتقليدانية ، إذ صدق معاوية حينما قال: " العوام إذا لم تشغلهم شغلوك" يعفو الله "عن ما سلف " حينما يتوب المسلم ويدخل الإيمان في قلبه ويعمل بالعمل الصالح الذي يمحو عمله السالف قبل أن يتوب ، لقوله عز وجل { أولئك يبدل الله سيآتهم حسنات}. وهنا نكون أمام هذه المقولة وتصدق وتكون صحيحة "عفا الله عن ماسف"؛فهل فعلاً تاب مفسدونا عن فسادهم وسرقتهم للمال العام ، توبة نصوحة حسب رأي أهل السنة والإجماع؟ لا أظن ، أن هؤلاء قد تابوا ، فهم مازالوا مثل المؤلفة قلوبهم ، لم يلج الإيمان إلى أفئدتهم ويشرح الله تعالى صدورهم للتقوى و العمل الصالح . مشكلتهم أن عملهم الطالح والفاسد يتمثلونه صالحا كالذي يخلط الماء مع اللبن . إن منطق تفكيرهم لا يخرج عن قاعدة أساسية في مجتمع الجهل والأمية و البطالة و التشرد، مفادها " كولْ و وْكْلْ "؟؟ وأي منطق هذا الذي تجاوز منطق أرسطو والمناطقة من بعده أمثال "راسل" و " كارل ناب "في القياس وأضرُبِهِ ؟ إن منطق "كولْ و وْكْلْ" هو منطق من لامنطق له ثم تسويغه بمعية الأفراد داخل المجتمع فوجدوا له شرعية في نفوس وضمائر هؤلاء، وبقياس الشاهد على الغائب كما هو متعارف عليه في المنطق الفقهي . لقد أعجبني أحد الأصدقاء حينما حكى لي عن قصة طريفة سمعها على لسان أحد الرواة المتخصصين في هذا المجال من المغاربة الذين يجدون فن السرد و الخطابة في أكاديمية المقاهي و الكازينوهات الثقافية ، و " العهدة على الراوي". ذهب أحد المهندسين المغاربة لزيارة صديق له في نفس المهنة بفرنسا متخصص في هندسة الطرق والقناطر و السكك ،فشاهد مهندسنا منجزات وتصاميم البناء،التي أنجزها الفرنسي وهو يثني ،عليه فأخبره هذا الأخير أنه قد إختلس من إحدى البنايات التي يعمل على إنجازها جذاراً لركنية صغيرة وضع تصميمها في الورق ولم يثم بناؤها، اعتقاداً منه أن مايفعله لصالحه ، وتعجب المغربي كيف يقر بسرقته و اختلاسه . فلما طلب منه مهندسنا أن يزوره في المغرب لكي يرى منجزاته ومشاريعه ، فرح الفرنسي بذلك، فزاره وشاهد تصاميمه ، وفجأة أشار إلى مكان خالي لايتوفر على قنطرة لكي تساعد الناس على مواصلة الطريق ، فقال له هل ترى القنطرة التي تم بناؤها وفق التصميم الذي أنجزته، قال الفرنسي : أين هي القنطرة ؟ إنها غير موجودة ؟ فأجابه لقد اختلستها، فهي توجد في جيبي وما زلت أتلمس نقودها. يقولها بفخر واعتزاز لدناءة نفسه وفساد سلوكه ومهنته . الواقع أننا كلنا نشارك في الفساد ، أَوليس من يصمت عن الحق ويقول الكذب ويشهد الزور "شيطان أخرس" ؟. فهناك شيطان آخر يسمع ويرى وهو الذي يدافع عن الفساد و يضمه إلى صدره ويعانقه بمودة وإخلاص... حينما نستيقظ في الصباح الباكر، تجد الناس يتهافتون ويركضون من أجل كسب لقمة العيش ،في الإدارات العمومية ، فلا يمكن إلا أن تسمع عند الكثير من الموظفين " وَا ضْبَرْ على خُوكْ بْشِي قْهيوة" القليل من النزهاء وأصحاب الضمائر اليقظة ، والإستثناء في القلة لا يشكل قاعدة . في المستشفيات فالفساد متجذر بمجرد ما أن تطأ قدمك بابها، يقال بصوت جهير من طرف بعض المسؤولين " الدفع مسبق قبل الفحص" . وهناك من مات وهو في "الإستقبالات" ولم تقبل منه شهادة الإحتياج أو الضعف ، هَمُهُ الوحيد ومشكلة حياته أنه فقير ومن سفلة القوم الكادحين . عجبت ولسنوات طوال حتى قبل مجيئي إلى هذا الوجود ، ففي" المحطة الطرقية " الفساد بالجملة وبدون تقسيط ، دون سرد أوحكي للأمثلة التي لا تعد ولا تحصى . يكفينا فخرا أن نقرأ ما هو مكتوب مصداقا ما تقول التذاكر" إذا لم تحضر في وقت السفر لا تقبل منك شكاية" لا نجد هذا الشعار إلا عندنا فهو " ماركة مسجلة" ومنتوج مغربي صرف لاريب فيه. أما رخص النقل والسياقة فهي تعطى بطريقة عشوائية ، فنقودك صارت هي المتكلم و الفاعل ، أما المفعول به فهو الشعب الذي يحب الفساد ويدافع عنه بكل ما أوتي من عدة وقوة رغم أنه يوجد في كل شيء وفي جميع المجالات بدون إسثناء وبسرعة تفوق بكثير سرعة "الطرامواي". حينما تظهر نقودك لايمكنك أن تنتظر في الصف مع البسطاء من الناس في المرافق و الإدارات العمومية، فشعبنا لايعرف أن في الفساد الندامة وفي النزاهة السلامة، إنه كثيراً ما يردد شعار: "في دفع النقود سلامة وقضاء للحاجة ، أما في الفقر والضعف، بؤس وخذلان ، وما أدراك ما ندامة "؟