بدا الأمر أشبه بتلاوة بيان عسكري. تباشير النصر كانت جليّةً في صوت الصحافي يوسف ججيلي وهو يزفّ إلى كتيبة 'الأحرار والمتنورين' عبر أثير إذاعة 'أصواث نبأ تأجيل تنزيل دفاتر التحملات للقناة الثانية حتّى الفاتح من شتنبر المقبل، ما يعني أنّ جولة من الصراع بين 'النوز و'الظلام' قد حسمت لمصلحة 'ثلاثي التنويز في القطب العمومي: سميرة سيطايل، سليم الشيخ وفيصل العرايشي، أو بالأحرى لمن يسند ظهورهم زاجّاً بهم في حرب بالوكالة ضد وزير بدا مؤمنا پخرافة' الربيع العربي، أو لعله صدّق بأن مقاليد الأمور قد آلت إلى حزبه طالما هناك دستور جديد وسند شعبي يكفلان لحكومته هامشا واسعا للتحرك وممارسة الحكم وتنفيذ ما وعد به، أو أقلّه، البرنامج الذي ائتلف حوله مع حلفائه. بدا قارئ 'البيان' غير مستسيغ حقيقة أنّ مصطفى الخلفي الذي كان يشرف على جريدة توزع بالكاد 500 نسخة، أمسى وزيرا للاتصال. وحتّى إذا تجاوز هذه 'العقدة النفسية'، فبدا وكأنه يتقبل الأمر، على مضض، فإنه يعود إلى لغة الأرقام والنسب ليحتجّ بأن هذا الحزب لا يمثل في الواقع سوى 27 ' من المغاربة الذين صوّتوا في انتخابات الخامس والعشرين من شتنبر، ما يعادل مليونا ونصف مليون من تعداد ساكنة تراوح خمسة وثلاثين مليونا ليس من حقّ هذا التنظيم ادّعاء تمثيلهم. إنّ الذي يقرأ ما استتر بين سطور ججيلي أو يحاول سبر المضمر والثاوي في خطابه، سيدرك أن الرجل قد فوّض لنفسه حقّ الحديث باسم باقي المغاربة ممن قاطعوا الانتخابات أو صوّتوا لأحزاب أخرى، ووكّل نفسه مرافعا مدافعا عن قضيتهم في مواجهة حزب لا يمثل إلا 'أقلية' ورغم ذلك يريد أن يفرض تصورا 'طالبانيا' على شعب تعود استنشاق نسائم حرية وحداثة وانفتاح لن يرضى عنها بديلا. وكأن لم يكن لبهاء الجلسة الأثيرية أن يكتمل بغير نايلة التازي التي أقسمت إلا أن تردّ الصاع وتتحدث بالفرنسية عنادا وشماتة بمن فكّر و'دبّر بليل' ليحجب 'نوز فرنسا عمن تبقّى من 'يتاماها' في المغرب. نايلة بدت متناغمة وأجواء النصر والحماس التي أشاعها ججيلي في استوديو 'أولاد البلاذ. كانت مأخوذة بخطبة نصر استقى 'العائد من تندوڤ عباراتها من معجم حرب يحكى أن 'الجنرال' بوانو هدّد بشنّها ضدّ قبيلة الحداثيين والمتفرنسين المناهضين لدفاتر الوزير مصطفى الخلفي. قدّمت نايلة جرداً مفصّلا وسردت لائحة مطوّلة بلغات تفخر بإتقانها والتحدّث بها بطلاقة. كأنما كنّا بصدد التصريح للعموم بممتلكات ما من قانون أو أحد ألزم به نايلة التازي التي فاتها ربما أن تضيف إلى 'قائمة الشرڤ لغة 'المندرين'. أوليست اللغة الأكثر تداولا في العالم لبلد مثل الصين ليست تساوي 'الخالة' فرنسا إزاء حضارته واقتصاده جناح بعوضة؟ ما كدّر صفو جلسة 'أولاد البلاذ، ففوّت عليهم بعضا من بهجتهم بالنصر المؤزر لم يكن غير اتصال من مواطن ذكّر 'المحتفلين' بأن خلف تلك الدفاتر التي أشبعوها ومن وضعها قدحا وهجاء، أناس أفرزتهم صناديق انتخابات تمنحهم شرعية وسندا شعبيين جديرين ببعض الاحترام والتوقير، ولا يعقل محوهما بجرة قلم أو بمجرد ادّعاء الدفاع عن حداثة لا تكاد تتجاوز في منظور بعض مدّعيها جسدا أنثويا تعوّد أن يطلّ بفتنة ووقاحة تستفزّان متصفحي الجرائد كلما عنّ لهم أن يطالعوا ما جاءهم به أو جاءتهم به 'الصباخ. عاب المتّصل على 'الشلّة' إجماع أفرادها على الشماتة والتّشفّي في وزير حاول أن يحلحل الأوضاع في قطاع استعصى على الإصلاح زمنا مديدا. ساءلهم عن تغييب الرأي الآخر في قناة إذاعية تعوّدت أن 'تعطي الكلمة' للمواطنين، لكنها تنكّرت لميثاقها وتقاليدها يومئذ. حتّى مسلم، مغنّي الراب، ضيف البرنامج الذي اعتقدت لوهلة أن يكون الصوت المشاكس الذي قد يعيد لجلسة 'أولاد البلاذ بعضا من توازنها واعتدالها، أخلف الموعد وآثر الصمت تأثرا ربّما بما أبدته الجماعة من إعجاب بأغانيه وما أسبغته من ثناء على التزام خانه أن يعبّر عنه حينئذ. من يدري؟ فلعلّ لدى مسلم رأي غير الذي خطر ببالي. هذا مثال ونموذج عن متابعة ورصد لما خلقته دفاتر تحمّلات القطب العمومي من نقاش وسجال في الإعلام الوطني خاض فيه الجميع، لكن أصواتا كثيرة وأقلاما عديدة فاتها أن تجد منابر لتصريف آرائها ومواقفها، خصوصا تلك التي تعاكس توجّه جبهة تدّعي صيانة قيم الحرية والحداثة والانفتاح. كانت 'الدفاتز مناسبة ليدرك المغاربة كم هو خافت، مخنوق ومغيّب ذاك الصوت المسكون بهمومهم والصادح بتطلعاتهم، وكم هو عال، جهير ومحتفىً به في المقابل ذلك 'النشاز' المحسوب زوراً وبهتاناً في صفّ الحداثة. تبيّن أنّه لولا نعمة الفايسبوك وقلّة من الجرائد الورقية والإلكترونية المتوازنة، لما كان لصوت الشعب أن يسمع له صدى. فالإعلام الرسمي لا يرى، لا يسمع ولا يتكلم. أمّا الجرائد، فجلّها آثر التموقع في الضفة النقيض، حيث للنخبة تصور مغاير لمغرب يحقّ للغالبية فيه أن تراقب بصمت.