دار وحكاية سلسلة رمضانية يعدها الأستاذ عبد المالك العسري ، يستضيف في الحلقة 19 الدكتور :حسن اليملاحي: الذكريات الغير القابلة النسيان. _________ كثيرا ما ينظر إلى فضاء الدار من منظورات مختلفة ومتنوعة، وبهذا المعنى، ترمز الدار في تمثلات الكثير إلى الاستقرار النفسي والحميمية الأسرية، كما نجدها في بعض الأحيان تتجاوز هذا المنظور الضيق ( المنزل ) لتأخذ دلالات أرحب بكثير، لتشمل حيّا أو أحياء بكاملها. وهذا المفهوم ينسحب على دور تحفل بها مدينة القصر الكبير بفضاءاتها التاريخية العجيبة الموغلة في القدم. ونفكر هنا في: ( دار غيلان ) و ( دار الدباغ ) و ( دار الدخان ).. وغيرها من الدور الأخرى التي لها رمزية خاصة في ذاكرة المدينة. ولما كانت هذه الفضاءات العمومية المشتركة تجمع بيننا من حيث الانتماء ، وتفرق بيننا من حيث التلقي ودرجة التفاعل معها، فإن تأثيراتها على طبائعنا ومخيالنا نجدها تختلف من شخص لآخر حسب مستوياتنا ومواقعنا الاجتماعية والثقافية. ولما كانت مدينة القصر الكبير في تقديرينا هي الدار الكبيرة والحاضنة التي نشأنا وترعرعنا فيها موثرين إياها على دارنا، فإن كتابتنا المتواضعة هذه ستنصرف إلى الحديث عن بعض الدور بهذه الحاضرة لما لها من حضور في ذاكرتي ، كاشف عن علاقتما بها ، وهو في الحقيقة حديث عن المدينة التي نحبها ونفتخر بالانتماء إليها. وسأبدأ حديثي هذا بالتركيز على دار غيلان مرورا بدار الدباغ أو الدباغة وانتهاء بدار الدخان. – دار وحكاية أولى: ( دار غيلان ) يرتبط فضاء دار غيلان في ذاكرتي بالكثير من الأحداث والمحطات، فهو يذكرني بمقابلات كرة القدم التي كنا نقيمها نحن الشباب في الساحة المقابلة لسينما المنصور، مقابلة تجمع في الغالب بين أبناء دار غيلان والديوان وسيدي الرايس.. وهذه المقابلات تعكس دلاليا وعي أبناء هذه الأحياء بالرياضة وأهميتها في حياتنا الصحية و والنفسية. و الحقيقة أن هذه المقابلات لم تكت تخول من طرائف ونوادر. ففي بعض الأحيان كانت تتوقف هذه المقابلات الممتعة بتدخل من أحد أفراد ساكنة هذا الحي التي كانت إما يصادر الكرة أو يمزقها ويقطعها بالموسى، وهذه السلوكات كثيرا ما كانت تثير غضب الجميع،كما كانت هذه المقابلات – أو على الأقل بعضها – تنتهي بشجار خفيف بين أعضاء الفريقين حول التحكيم لتستمر بعد ذلك، أوترفع حتى أجل آخر. أتذكر الآن هذه المقابلات بمرارة بعد أن طواها النسيان، ومن بين اللاعبين الذي أحتفظ بأسمائهم أذكر: إدريس ومصطفى وعبده وحميدو ومحمد ويوسف..، لقد كانت ممتعة بالفعل وتجمع بين قلوب الجميع. والحديث عن دار غيلان يوقظ فيّ حكايات سينما المنصور، السينما التي كنا نؤمها ونلجلها بأربعين فرنكا لمشاهدة الأفلام الهندية. ومن منا لا يتذكر أفلام “دوستي” و” أمنا الأرض” و”بوبي”، أفلام كنا نشاهدها ونذرف دموعا من شدة تعاطفنا مع أبطالها الذين كانوا يتعرضون إلى الخيانة أو الظلم من قبل قبيلتهم . والحديث عن هذه الأفلام يذكرنا بالممثلين: شاشي كابور ودرامندرا وفيروزخانا وتشيكو وبران وراجاندرا كومار وبوشرطة كما كان يلقبه البعض. وكما لا يخفى فإن كل هذه الأفلام وغيرها من باقي الأفلام الأخرى المتنوعة ( الكاراتيه، والنضال الفلسطيني ) ساهمت جميعها في تشكيل ثقافتنا ووعينا لما تنطوي عليه من قيم إنسانية وكونية. وللذكرى، فإننا كلما شتقنا إلى هذه المرحلة المهمة من حياتنا، إلا واستعدناها ونحن نتابع بعضا من هذه الأفلام من خلال تقنية يوتوب، وذلك لمعانقة هذا الماضي والسفر إليه قليلا. – دار وحكاية ثانية: ( دار الدباغ ) أما بالنسبة لدار الدباغ ( دار دباغة الجلود ) المعلمة التاريخية التي تعود إلى عهد المرينيين، فإلى جانب الدور الاقتصادي الذي تقوم به وتلعبه في الحياة الاقتصادية للمدينة، فهي أيضا ترتبط في وعينا ببعض الذكريات، ذكريات مرحلة الشباب. هذا المكان تحديدا كنا نزوره بين فينة وأخرى لإشباع فضولنا ومعرفة كيفية اشتغاله. ومما كان يثير انتباهي في دار الدباغ، تلك الآلية المهترئة ( شبيهة بحافلة معطلة ومتكائلة ) التي تملأ جانبا من هذا الفضاء،كما كانت تثيرنا بعض الأضرحة التي يحفل بها هذا الفضاء ضريح ملك الجن شمهورش أو سمهورس، وكذا صومعة البنات التي تؤمها العوانس اللواتي فاتهن قطار الزواج. وأذكر أني في الكثير من المرات صعدت هذه الصومعة برفقة صديقي سي محمد ( ع ) ، وأخذت كل ما كانت تشتمل عليه من شموع وريالات وضعت في جانب من هذه الصومعة لنيل البركة والقبول من قبل العوانس. كما أن هذا المكان يرتبط في مخيلتي بالاستحمام بماء بئر يوجد بالقرب من ضريح ( لم أعد أتذكر اسمه ) يوجد عند مدخل دار الدباغ من جهة اليسار، نعم كنا نستحم بمائه الحلو كلما عدنا من النهر الذي يوجد في طريق الرباط، هناك كنا نقضي تقريبا كل اليوم هربا من موجات الحر التي كان تضرب القصر الكبير. وأذكر أن هذا النهر كثيرا ما كانت تؤمه الأسر القصرية في فصل الربيع إما للنزهة أو لتصبين الأغطية أو الصوف، أو لصيد السمك من قبل بعض هوات صيد السمك، وهو فضاء لا أدري لما لم يتم تأهيله سياحيا من قبل سلطات البلدية واستغلال الإمكانات الطبيعية التي يتميز بها. في السنوات الأخيرة،كنت أمر على هذه الأماكن، على هامش زيارتي لموسم عاشوراء الذي كان يقام في هذه المحيطات. كنت أتأمل دار الدباغ، وأستحضر تلك الأيام التي مرت بسرعة، وأستحضر معها كل المغامرات التي كنا نقوم بها ونحن إما في الطريق إلى مطرح النفايات لصيد طائر الحسون ب” الكريبي” أو إلى النهر للسباحة والاستجمام، أو عند عودتنا إلى المدينة ونحن نمر بالضيعات المحيطة. كم كان يستهوينا سفرجل ورمان ومندرين هاته الضيعات. وأمام السحر الذي كانت تمارسه علينا هذه الفاكهة الطرية والطازجة، كنا نغير على أشجارها من دون أن نعبأ بعواقب هذا الجرم.. وغير ما مرة كان يتم القبض على أحدنا من قبل حراس هذه “الغراسي”، ليسلم بعد ذلك إلى درك عرباوة. ولا يخفى ما كان هذا الأمر يولده من مشاكل لدى أسرنا التي لم تكن تعلم عن مغامراتنا هذه. – دار وحكاية ثالثة: ( دار الدخان ) إلى جانب دار غيلان ودار الدباغ، يمكن الحديث عن دار الدخان. وهذه الدار ترتبط في ذاكرتي بحدثين اثنين لا غير – الأول: ويتمثل في الذهاب إلى ملعب كرة القدم الذي يوجد في هذه الدار، لمتابعة كل المقابلات الرياضية التي كان يجريها النادي الرياضي القصري مع بعض الفرق الوطنية من العرائش وطنجة وتطوان والقنيطرة… أذكر أن النادي في هذه المرحلة كان قويا ، ويحقق الكثير من الانتصارات بفضل لاعبين أقوياء أشداء أذكر منهم: حميدو وصلاح والعلاكي والحميموني وحموزو والهادي.. والقائمة طويلة. لم يكن الملعب آنذاك، كما هو الحال عليه الآن، بل كان محاطا بالقصب بحيث يسهل متابعة المقابلة على متتبعي الفريق ، وعلى كل من لا يتوفر على ورقة الدخول. ومن الطرائف التي ترتبط في ذاكرتي، حبنا الأعمى للنادي، وجمعنا لصور الفريق التي كنا نقتطعها من الصفحة الرياضية لبعض الصحف ونتبادلها فيما بيننا نحن عشاق كرة القدم، وكذا صور الإصابات والهجوم على شباك الخصوم، كما أننا كنا نحب النادي ونتابع كل المقابلات التي يجريها ونسانده نحن الشباب. لكن كلما خسر مقابلة ما، عدنا أدراجنا بخيبة كبيرة – من دون عنف – في اتجاه بيوتنا ونحن نعود عبر سكة القطار مرورا بمقهى الربيو التي كانت معروفة بكؤوس الشاي المعطر بالنعناع والزهر،ونمر على المرينة الفضاء الشعبي الذي كانت يحتضن السيرك و الحلقة وما يرافق ذلك من فكاهة وتثقيف وإفادة وفرجة .. لا أخفي أن علاقتي بهذا الحي ( دار الدخان ) قد توطدت كثيرا ، خاصة لما تعرفت إلى بعض الأصدقاء، أذكر منهم البقالي، وحضرية والكبريتي رحمه الله والعليكي والفضيل وأسماء أخرى ترتبط في ذهني بهذه المرحلة الذهبية، مرحلة الشباب التي لا تنسى. واستعادتها الآن هو من باب تمجيد هذه الدور التي تشكل جزءا من الفضاء العام للمدينة – الثاني: ويرتبط في ذهني بحدث مرافقة والدي إلى محطة القطار، والدي الذي كان يعمل في صفوف القوات المسلحة الملكية. كنت أرافقه وأنا أحمل حقيبته في يمناي وهو في الطريق إلى عمله بعد زيارتنا بمناسبة عطلة نهاية الأسبوع..كنت أفتخر بوالدي وبشجاعته الذي أبداها في الكثير من المحطات بما في ذلك مقاومة الاستعمار بعد أن التحق بالمقاومة وهو الذي كان جنديا تابعا للجيش النظامي الإسباني، ، أفتخر به أيضا وهو الذي أمضى أكثر من عشرين سنة في الصحراء المغربية مدافعا عنها وعن وطننا ضد كل الأطماع الخارجية. كنت أسير معه إلى محطة القطار بكل حماس كما لو كنت عسكريا. كانت دار الدخان في تلك المرحلة خالية من البنايات والدور ماعدا دور السكك الحديدية ومقهى الروبيو، وبعض المساكن الوظيفية لموظفي السكك الحديدية ، ومع ذلك كانت آمنة إلى درجة أني كنت أعود لوحدي ليلا إلى قلب المدينة من دون أن يطالني أي مكروه. كل هذه الدور ، دار غيلان ودار الدباغ ودار الدخان، هي واحدة من معالم مدينة القصر الكبير، وترتبط في مخيال أبناء القصر الكبير بالكثير من الذكريات غير القابلة للنسيان، والحديث عنها سواء كان شفاهيا أو كتابيا، إنما يدخل ضمن استعادة وتمجيد هذه الدور وما قامت به خدمات و من تشكيل وإعادة تشكيل لوعينا ولا وعينا الطفولي والشبابي..