قصة قصيرة للأديبة والمؤرخة لبنى الفاسي . تسترجع فيها شريط ذكريات الطفولة وعبق التاريخ" لبنى الفاسي
الحي الذي كان يقيني حر الشمس الملتهبة أيام الصيف، ويظللني عن ماء المطر وقت الشتاء". حميمية المكان كلما وطأت قدماي أرض المدينة، إلا ويكون لي موعد مع مكان ألفته، مكان يتجاوز في خلايا ذاكرتي حدوده الجغرافية وبعده المحسوس ليبث روحانيته في عروقي من جديد، فلا أبالي بالوجوه التي تمر، والتي لم تغب ملامحها عن ذاكرتي المدادية . أقف عند "فم الدرب" أو "رأس الدرب" لأوزع نظراتي على هندسة المكان في مشهده البانورامي، أقف في نفس النقطة التي كان يعتاد الوقوف فيها رجل في مقبل العمر،شديد الاهتمام بمظهره الخارجي، كانت تبدو من شعره المرتب ومن ملامح آنذاك أمارات النبل والشرف، ورغم ضآلة قامتي الصغيرة كان يستفزني السؤال : لماذا يجعل هذا الشخص من هذا المكان نقطة تمركز وتأمل وشرود؟ ولماذا يشدني هذا المكان كلما مررت به الآن وأنا في سن الشباب؟ على يسار "رأس الدرب" ضريح قديم أوصدت أبوابه، وصدأت أقفاله، يبدو من بقايا الشموع القديمة المتناثرة على نوافذه الصغيرة أنه مهجور، ولا يظهر من شبابيكه إلا السواد، بعد أن كان واحة خضراء تزدان خضرتها بمصاحف تؤثت أيادي المرتلين الناصعة جلابيبهم من البياض، وأضواء بهية ترسل بريقها عبر كل الحي، أصوات المرتلين في الليالي البيضاء من الأشهر الهجرية وفي رمضان تصدح كالبلابل في الأذان،وكأنها تكتب أو تسمع روح الحي الدينية لكل والج مدخله. على الجانب الآخر، دار "المقدم" التي كانت لها تلك الهيبة في قلوبنا الصغيرة لاختلاف بابها عن الأبواب الأخرى، وشساعة عرضها وقصرها.من هذا المدخل، تجد الحي الدائري تتوسطه" خصة" مستحدثة وقعها أبناء الحي مخلدين عليها اسم "عبد السلام عامر" على شاهدة من المرمر. في الجانب الخلفي من الحي ، يتراءى لم "المنور" أي الصومعة الصغرى من "المسجد الأعظم" أو "الجامع الكبير" كما تتداوله ألسنة الساكنة، ويغدو بريق مصابيحه براقا، أخاذا من "فم الدرب" وهو يعلو البنايات البسيطة ويزينها رغم بساطة هندستها، كتاج يكلل رأس العروس. مسجد أذكر منذ صباي وفي تجوالي الطفولي بين "أبوابه"، "صحنه"، و"محرابه"، حيكت حوله العديد من الأساطير لإخافتنا نحن الأطفال وخصوصا البنات لولوجه، داخل هذا الجامع حيث توجد أقواس "محدبة" وأخرى "مفصصة" تنيرها ثريات نحاسية معلقة تثير الإعجاب، فكانت كتابات غريبة داخله تثير فضولنا لأنها لم تكن حروفا عربية، فكنا نحس رهبة المكان وقوة روحانيته العالية، فكنا نجلس القرفصاء في ركن منه نتأمل زخارفه وهي موزعة بين الهندسة والخط والنبات، فكنا ننبهربه أيما انبهار، وكنا رغم صغرنا نحس عظمة المعلمة وشموخها التاريخي، فهي تبدو للرائي ذات هندسة بسيطة متواضعة تواضع أهل الحي وبناياته، لكن القباب التي كنا نلوي أعناقنا لنراهن دائريتها وثمانية أضلاعها وهرميتها وكريات الجامور التي تسمو على الصومعة، والتي تنتهي بهلال تتجه فتحته نحو القبلة، كانت تبرهن وتؤكد قوة المكان في قلوبنا واستشعار ذلك الطابع الروحي الخالص الذي كنا نحسه نحن الصغار. في الجانب الخلفي دائما، ومرورا بأزقة تضيق تارة وتتسع أخرى، تكاد لا ترى نور الشمس، كانت الذاكرة تؤتث بأساطير حول ضريح يزوره الناس من كل مكان، وتجد السيارات الفارهة في "صحن" الحي محملة بعنزات سوداء، أو دجاجات تحملها النساء معلقة من الأرجل، مقتنيات علبة شمع وأخرى للحناء دالفات إلى الزقاق المؤدي للضريح، يلتمسن البركة واليمن بالاغتسال من مائه وزيارة ضريحه الذي لم يسلم هو أيضا من روايات وحكايات يرددها الصغير والكبير من أبناء الحي، إنه ضريح "سيدي ميمون" فكانت الرهبة والفضول يتضاعفان عند رؤية هذه الطقوس المبدئية والبدائية التي تملأ المكان،إذا انعرجت نامية اليمين أسفل الحي الدائري، تجد زقاقا ضيقا به فرن تقليدي يؤدي إلى حي "القطانين". كلما مررت من ذلك الحي تنتابني مشاعر الشوق والحنين إلى ذات الظفائر، ذلك الحي الذي كان يقيني حر الشمس الملتهبة أيام الصيف، ويظللني عن ماء المطر وقت الشتاء. حي كأنه دهليز كثير الفتحات على اليمين وعلى الشمال، يعلوه سقف خشبي تتقاطع فيه أعمدة خشبية غليظة، وتارة فتحة تريك ضوء الشمس، وكأنك في مدينة ملاه، أزقة متشعبة الردهات والدروب، ولا أغرب من درب "سبع ليات" الكثير المنعرجات، والذي لا يتسع عرضه لاثنين، أقواس وكتابات غابرة تعلو صدفات البيوت العتيقة بأحرف لاتينية وأعمدة شبيهة بتلك الموجودة في المواقع الأثرية، قبل أن تصادفك أقواس كثيرة وفتحات ومداخل تؤدي بك إلى حي دون الآخر لا يخلو من مسجد أو ضريح رغم قصر المسافة وضيق المكان، تجد على يسارك مقبرة "سبعة رجال" والتي لم يحض سجل ذاكرتي عنها مما سمعت غير أنها مقبرة لسبعة إخوة جاهدوا ودافعوا عن الوطن، فكتبت لهم الشهادة ودفنوا هناك. عدت للمكان بعد سنين خلت، ألف البصر فيها شساعة المكان وشر الزمان، عدت لأعيد قراءته من جديد، اختلفت القراءة عن سابقتها... لم أكن أدرك سر المكان.. يا لعمقه وألفته رغم وحشة هندسته... أبواب تقرأ فيها عظمة الصانع خصوصا عندما تلج غور البيوت فتجدها أكثر رحابة واتساعا وضياء، أبواب لم يعد لها أثر في مدن اليوم، ومدقة "الخمسية" أو "الحرباء" التي تزين صدورها، هذه الرموز التي تعتبرها الثقافة الشعبية للبلد آلية دفاع بامتياز عن العين الشريرة لصد شرها. تهت بين الدروب، وغابت عني الكثير من الوجوه التي اعتدتها، إلا أسارير وجه واحد، وجه ظل يلاحقني كظلي طيلة رحلتي القصيرة بين الظلمة والنور، لأنه كان آخر مكان أودعه فيه لألتحق بالمدرسة كل يوم، يربت على كتفي ويدعو لي، فكنت أستشعر فخامة الثقافة وأصالة التاريخ في لكنته الاسبانية المتقنة. وجه لم أستسغ غيابه وقد مرت سنين على الفراق الأبدي، كان يطوف بي كما يلاعب الأب طفلته المدللة، فلم أعد احفل لا بالزخارف ولا بالأبواب التي تولجك في عوالم مليئة بالأسرار، ولا بعثرات الأطفال الصغار الحافية أقدامهم على فستاني وهو يتراكضون،فكنت كالغريبة أسائل الحيطان والدروب الضيقة حتى وجدت نفسي وأنا مارقة من سوق "الحايك"، وكأنني خرجت للتو من رحم يطبعه السكون إلى عالم فسيح مفعم بالحركة والحيوية، كأنني ألج من جديد عالما مختلفا تماما كالأسطورة، فارتقيت الأدراج التي توصل إلى الشارع الرئيسي حيث فارقني ظلي الذي استل الروح المنتشية من أعماقي لأستردها عند أول درج يطل على الشارع العريض.