ولدت في مدينة صغيرة وجميلة (في عيون أبنائها طبعا) تسمى “القصر الكبير” شمال المغرب. علاقة غريبة تلك التي تجمعني بهذا المكان، فهو ليس مسقط الرأس فقط، ولكنه مسقط القلب والذاكرة أيضا. تنقلت وعشت في أماكن عديدة ومختلفة بحكم الدراسة والعمل، لكني كنت أحمل معي دائما مدينة “القصر الكبير” بكاملها: أحيائها وناسها، غبارها وقيظها، ضجيجها وأتربتها. تطردني مثل ابن عاق وأعود إليها مثل محب شريد أو محطة مهجورة، فنحن مثل عاشقين يختصمان دائما ولا يفترقان أبدا. تأملت كثيرا علاقتي الغريبة بهذه المدينة التي تصل حد العشق وحد الوله، فلم أجد لها تفسيرا سوى تلك العلاقة المقدسة التي تجمعني بأمي، سيدة المقام وملهمتي في دنيا الكتابة والصبابة، منذ فتحت عيني على الكون امتلأت رئتي بهواء القصر الكبير، وتشبع قلبي بحب هذا الفضاء المنذور للوجع وللنسيان. فامتزجت في ذاكرتي الغضة رائحة المكان وعطر الأم، فظل القلب مرتبطا بهما بحبل سري لم ينقطع ولكنه يزداد متانة يوما بعد يوم. كثيرا ما يبدو لي أن حبي للقصر الكبير حب من طرف واحد. أشقى به وحدي. أما هي فتسعد بعشاقها الكثيرين الذين أغوتهم، فهم يشقون في حبها بعدما أصابتهم لعنة المكان وتورطوا في عشقه حتى يدفنوا فيه ويتوحدوا معه، فأقصى أماني المحب الصادق أن يلتحم بمحبوبه في لحظة عناق أبدي يذوب أحدهما في الآخر، فيصيران جسدا واحدا برأسين وقلبين…