إن إدراك فقه الواقع جيدا، والعلم بفقه الشرع ومقاصده، وسيلتان رئيسيتان للوصول إلى غاية كبرى وهي ما يصطلح عليه (فقه الموازنات)، هذا الفقه الذي لا يدركه كثير من الناس، إن لم أقل بعض من نصبوا أنفسهم مفتين. وكما قال د القرضاوي:” وبالجمع بين فقه الواقع وفقه الشرع نصل إلى فقه متوازن”. فعدم إدراك تلك العلاقات ومراتبها بين المصالح بعضها ببعض، وبين المفاسد بعضها ببعض، وبين المصالح والمفاسد، أنتج خطابات وفتاوي وفهوما بعيدة كل البعد عن المنهج السليم القويم، فأحدثت شرخا كبيرا في المجتمع الواحد، بل في اﻷمة اﻹسلامية قاطبة، إن على المستوى الفقهي، وإن على المستوى الاجتماعي، وإن على المستوى الاقتصادي، وهكذا. ويعد اﻹمام الغزالي رحمه الله واحدا من العلماء القدامى اﻷوائل الذين تفطنوا إلى فقه اﻷولويات، وأدركوا خطورة الجهل به، وتحدثوا عنه. من اﻷمثلة على ذلك : أنه عاب على المتدينين من أهل اﻷموال تكرار الحج وتقديمه على تفريج كرب المسلمين، فقال: ربما يحرصون على إنفاق المال في الحج،فيحجون مرة بعد أخرى، وربما تركوا جيرانهم جياعا!. ثم مثل بهذه القصة وغيرها. قال أبو نصر التمار : إن رجلا جاء يودع بشر بن الحارث وقال: قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء؟ فقال له: كم أعددت للنفقة ؟فقال: ألفي درهم. قال بشر: فأي شيء تبتغي بحجك؟ تزهدا، أو اشتياقا إلى البيت، أو ابتغاء مرضاة الله تعالى؟ قال: ابتغاء مرضاة الله. قال فإن أصبت مرضاة الله وأنت في منزلك وتنفق ألفي درهم،وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى: أتفعل ذلك؟ قال: نعم. فقال بشر: اذهب فاعطها عشرة أنفس: مديون يقضي دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يغني عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تعطها واحدا فافعل، فإن إدخالك السرور على قلب المسلم، وإغاثة اللهفان، وكشف الضر، وإعانة الضعيف، أفضل من مائة حجة بعد حجة اﻹسلام؛ قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك؟ فقال: يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي. فتبسم بشر رحمه الله، وأقبل عليه، وقال له: المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات، اقتضت النفس أن تقضي به وطرا، فأظهرت اﻷعمال الصالحات، وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين”. (اﻹحياء). أقول: هذا في زمنه رحمه الله، فماذا لو عاش بيننا في زمننا هذا؟؟؟ فكم وكم ممن يعتمرون ولن أقول يحجون كل عام، وحجتهم في ذلك تعلق القلب بذاك المقام، وجميل ذلك، ولن ندخل في النيات، ولكن الجهل بفقه واقعهم، ومقصود الشارع من اﻷوامر والنواهي، فوت عليهم أعمالا يتعدى نفعها، وهي مقدمة على ما كان نفعه قاصرا على الفرد نفسه. أموال تقدر بالملايين، لو جمعت تلك اﻷموال ووزعت بشكل معقول لسدت حاجة الكثيرين من الفقراء، والمرضى، واﻷيتام، واﻷرامل، والمحتاجين، وغير ذلك مما يدخل في هذا السياق. ولكن لﻷسف الشديد حال كثير من أصحاب تلك اﻷموال كحال قصة بشر بن الحارث. كتبه بإيجاز : يونس الكمراوي راجيا العفو من ربه .