من المسلم به والمفترض أن يكون أهل الحل والعقد، من نخب سياسية ودينية وفكرية وعلمية ... مدركين لأدوارهم، ملمين بواجباتهم، عارفين بحدودهم، مستوعبين لخطواتهم ومبادراتهم... يتحكمون في الميزان الذي اكتسبوه في حياتهم الخاصة والعامة والذي ييسر لهم ليس فقط معرفة المصلحة من المفسدة ، بل يمكنهم من تنزيل وتطبيق ما يعتقدون أنهم يعرفونه ويدعون إليه...من رعاية لمصالح من يمثلون أو يتحدثون باسمهم ..وكذا بالتعامل الرصين والناجع مع الإشكالات والقضايا التي تحتاج الى معالجات والتي قد تمتد آثارها الى العموم، إيجابا وسلبا، مما يحقق مصلحة أو مفسدة ... ... ولقد قال الغزالي عن المصلحة والمفسدة .. المصلحة «عبارة في الأصل عن جلب منفعة أو دفع مفسدة...والمحافظة على مقصود الشرع من الخلق خمسة وهي (الدين والنفس، والنسل، والعقل والمال)...فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة» وقال ابن القيم: «والشريعة مبناها وأساسها يقوم على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها ومصالح كلها، وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن دخلت فيها بالتأويل). وفي علاقة بالموضوع تحدث الأقدمون عن الحسن والقبح .. فقالوا الحسن ما فيه مصلحة، والقبيح ما فيه مفسدة، وغيرهما لا يكون شيئا منهما. إن منهجية ما يعرف بفقه / سياسة الموازنة بين المصالح والمفاسد في أمور الدين والدنيا، من الأمور الواجب على الجميع العلم بها في حدودها الدنيا لأنها تدل على ترجيح للمنطق وتبرز مدى امتلاك بصيرة مميزة ..لأن حدود التقاطع والتداخل بين المصلحة والمفسدة والخير والشر والنية الحسنة والنية السيئة، قد تتسبب في ارتكاب أخطاء وزلات يمكن أن تكون كارثية وتقدم - أي تلك الاخطاء - على أنها عين العقل والصواب والحل الأمثل .. وإقدام الناس على أفعال ومواقف أو إصدار أقوال تحت غطاء النصح وفعل الخير وخدمة مصالح الخاصة /العامة ابتغاء مرضاة الضمير والله .. قد يكون في ذلك ارتكاب لمفسدة أكبر باعتبار جوهر الفعل أو القول، ونتائجه القريبة والبعيدة ..فالذي يكفر الناس ويأمر بالقتل وينفذه، يعتقد أن ما يفعله هو المصلحة العظمى.. إن المتعاملين مع شؤون الناس الملموسة والفكرية، دينيا ووضعيا، يجدون أنفسهم في العديد من الحالات إن لم نقل أغلبها أمام إشكاليات تتعلق بالترجيح، تصل أحيانا لدرجات التعارض والتضاد الذي قد تضيع في متاهاته المصلحة الراجحة بعدم امتلاك المعرفة المعقولة، والتشبع بالموضوعية والقدرة على التمييز بين الأمور والآراء والمواقف .. وعدم القدرة على إعلان وترجيح الرأي الأسلم توفيقا أو تقويما أو إبطالا، بعيدا عن الذاتية والانانية التي قد تختفي المفسدة العظمى وراءها .. فمثلا يضيع المتعاطي للشؤون العامة، متابعة أو تدبيرا أو تسييرا ، بين إشكالات : *منها عدم القدرة على معرفة المصلحة التي يجب أن تقدم عندما تتعدد المصالح حول نفس النازلة ...وهذا ما يعرفه الفقهاء بالمصلحة الراجحة في مقابل المصلحة المرجوحة ..بما في ذلك احتمال الجمع بينهما ..وهذا شرعا وعقلا لا يعني إطلاقا إزالة صفة المصلحة عن الثانية لأن في العمل بالأولى تحقيقا ضمنيا لما ذهبت إليه الثانية ...ويسمى هذا عين العقل وجوهر الشرع .. ونسوق هنا مثالا دفع به العز بن عبد السلام حيث قال : (واعلم أن تقديم الأصلح فالصالح... مركوز في طبائع العباد... فلو خيرت الصبي الصغير بين اللذيذ والألذ لأختار الألذ، ولو خير بين الحسن والأحسن لأختار الأحسن، لا يقدم الصالح على الأصلح إلا جاهل بفضل الأصلح أو شقى متجاهل لا ينظر إلى ما بين المسرتين من تفاوت) وقال ابن القيم: (وقاعدة الشرع والقدر تحصيل أعلى المصلحتين وإن فات أدناهما) *ومنها المعرفة والتجربة المحققة للتمييز بين الأكثر مفسدة والأقل مفسدة...باختيار المفسدة الأقل .. ...وفي هذا قال ابن القيم (إن النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه، وأبغض إلى الله ورسوله، لا يسوغ إنكاره، وإن الله يبغضه، ويمقت أهله...)