على مائدة عشاء جال بنا الحديث أنا وصاحباي - وهما من رموز العمل الإسلامي بالمغرب- في مواضيع شتى، في السياسة، والثقافة، كما في العمل الدعوي والحركي. لفت انتباهي أن تكون لدى الأخوين ملاحظة كانت تؤرقني منذ مدة، وفكرت مرارا في أن أعبر عن رأيي فيها في مقال صحفي. أقصد ظاهرة استشرت في السنين الأخيرة ليس فقط بين أبناء الطبقات الغنية وإنما تجاوز الأمر ذلك إلى بعض أوساط الطبقة المتوسطة ووسط شباب الصحوة الإسلامية. إنها ظاهرة تكرار أداء مناسك العمرة من طرف الشخص الواحد حتى عرف بعضهم بعمرتين في السنة ( عمرة خلال رمضان وعمرة أخرى في ذكرى المولد النبوي الشريف). قال أحد الصديقين المشار إليهما أعلاه بأن الخطير في هذه الظاهرة أنها بدأت في الانتشار في أوساط الدعاة وبعض المسؤولين في بعض الحركات الإسلامية الذين من المفترض أنهم درسوا فقه الأولويات، وفقه المقاصد، وفقه الموازنات، وفقه الواقع وغير ذلك من أنواع الفقه التي لا غنى عنها لأي مسلم لأي مسؤول في قطاع من قطاعات الدعوة والحركة. وأعطى مثالا بأحدهم - يعرفه جيدا- يترك مسؤولياته التنظيمية كلها، وواجباته المهنية والعائلية بأكملها ، لكي يؤدي نافلة العمرة التي سبق له أن أداها لعدة مرات . و حجته في ذلك أنه لا يصبر على تلك الأجواء الإيمانية الربانية في رحاب المسجد الحرام و قرب قبر الرسول بالمسجد النبوي الشريف . وهو نفس الجواب الذي تلقيته قبل سنين من صديقين عزيزين من هواة السفر لأداء العمرة كل سنة أو سنتين رغم نفقاتها الباهظة ماديا. حسب ما أعلن هذا العام فقد قارب عدد المعتمرين القادمين من مختلف أنحاء العالم الإسلامي خلال شهر رمضان الأبرك حوالي ثلاثة مليون معتمر، ومتوسط ما ينفقه المعتمر الواحد حوالي ثلاثين ألف درهم، ليكون مجموع تلك النفقات هو 003 مليار درهم . وهذا رقم كبير جدا يستطيع أن ينتشل أمما إسلامية عديدة من وهدة التخلف والفقر والمرض والأمية. كما أن ما ينفقه أبناء الصحوة الإسلامية وحدهم سيكون لا شك رقما مقدرا سيسد ثغرات كبيرة في العمل الإسلامي خاصة إذا عرفنا أن المال هو عصب الدعوات و قوام النهضة في المجتمعات. أورد الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في أحد كتبه أنه التقى ذات مرة رجلا أراد أن يحج للمرة الثالثة فقال له : أدلك على عمل أفضل؟. إن فلانا تخرج من كلية الصيدلة وهو فقير .. فضع في يد الشاب المتخرج هذا المبلغ يبدأ به حياة تنفعه، وتنفع أمته، ولك عند الله ثواب أكبر من ثواب حجتك هذه ! فصاح في دهشة : أدع الحج وأعين على فتح صيدلية ما هذا؟!) في كتابه ( في فقه الأولويات :دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة) عقد الشيخ يوسف القرضاوي فقرة بعنوان ( نموذج من إنفاق الأموال في غير ما هو أولى بها) ومن ضمن النماذج التي أوردها ( إنفاق الأموال في حج التطوع) واستأنس في ذلك بالصحابي الجليل ابن مسعود رضي الله عنه الذي قال: في آخر الزمان يكثر الحج بلا سبب، يهون عليهم السفر، ويبسط لهم في الرزق، ويرجعون محرومين مسلوبين يهوى بأحدهم بعيره بين الرمال والقفار وجاره مأسور على جنبه لا يواسيه. كما أورد قصة تنطبق على أهل زماننا تمام المطابقة وهي : قال ابو نصر التمار: إن رجلا جاء يودع بشر بن الحارث وقال له:قد عزمت على الحج فتأمرني بشيء؟ فقال له: كم أعددت للنفقة؟ فقال : ألفي درهم ؟ قال بشر: فأي شيء تبتغي بحجك؟ تزهدا أو اشتياقا إلى البيت أو ابتغاء مرضاة الله؟ قال : ابتغاء مرضاة الله. قال: فإن أصبت مرضاة الله وأنت في منزلك، وتنق ألفي درهم، وتكون على يقين من مرضاة الله تعالى أتفعل ذلك؟ قال : نعم. قال : اذهب فأعطها عشرة أنفس : مديون يقضي دينه، وفقير يرم شعثه، ومعيل يغني عياله، ومربي يتيم يفرحه، وإن قوي قلبك تعطيها واحدا فافعل، فإن إدخالك السرور على قلب مسلم، وإغاثة اللهفان، وكشف الضر، وإعانة الضعيف، أفضل من مائة حجة بعد حجة الإسلام ! قم فأخرجها كما أمرناك وإلا فقل لنا ما في قلبك. فقال : يا أبا نصر سفري أقوى في قلبي . فتبسم بشر رحمه الله وأقبل عليه وقال له : المال إذا جمع من وسخ التجارات والشبهات اقتضت النفس أن تقضي به وطرا فأظهرت الأعمال الصالحات وقد آلى الله على نفسه أن لا يقبل إلا عمل المتقين ). إذا كان هذا هو موقف الصحابة والتابعين والفقهاء من حج التطوع فما ذا عساهم سيتخذون من موقف في العمرة المكرورة التي هي قطعا دون فضل الحج عند الله؟ المقلق في هذه الظاهرة التي نحن بصدد الحديث عنها جملة أمور : منها أنها بدأ تنتشر في قطاع واسع من المجتمع لتنقل إلى صفوف أبناء الحركة الإسلامية حتى جاز لنا أن نطلق عليها وصف الظاهرة، ومنها أنها تعبير عن فهم معوج للتدين ولتعاليم الدين الحنيف، ومنها أنها تعطي صورة مشوهة عن الالتزام بالإسلام الذي هو في عمقه عطاء بلا حدود، وعمل متواصل دون انقطاع، ومساهمة في إيجاد الحلول لمعضلات المجتمع التنموية ، بدل هذا الفهم الذي يركز على الخلاص الفردي ويذهب بالإسلام بعيدا عن شؤون الناس وهموم الحياة. إن القضية تشي بوجود خلل في العقل الإسلامي المعاصر الذي لم يعرف بعد كيف يقدم الأهم على المهم، والمهم على غير المهم، أي بتعبير فقيه العصر الشيخ يوسف القرضاوي أن يعرف مراتب الأعمال وترتيب الأولويات. ذلك أن من فقه الأولويات في ترجيح العمل أن يكون أكثر نفعا من غيره وعلى قدر نفعه للآخرين يكون فضله وأجره عند الله . ولهذا كان جنس أعمال الجهاد أفضل من جنس أعمال الحج لأن نفع الحج لصاحبه ، ونفع الجهاد للأمة . وفي هذا جاء قوله تعالى : (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ؟ لا يستوون عند الله. والله لا يهدي القوم الظالمين .الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله. وأولئك هم الفائزون ( سورة التوبة 19/20)... وقد قرر الفقهاء أن المتفرغ للعبادة لا يأخذ من الزكاة بخلاف المتفرغ للعلم لأنه لا رهبانية في الإسلام ولأن تفرغ المتعبد لنفسه وتفرغ طالب العلم لمصلحة الأمة. وهكذا يكون العمل الأفضل ما كان أكثر نفعا للآخرين. أوجه في الأخير دعوة إلى مفكري الصحوة الإسلامية ودعاتها وأصحاب القلم فيها لاستجلاء هذا الموضوع وتمحيصه وتدقيقه وجعل فقه مراتب الأعمال ضمن مناهجها التثقيفية والتربوية ( أقترح اعتماد على كتاب فقه الأولويات في ضوء القرآن والسنة للدكتور يوسف القرضاوي) اقتناعا مني بان تشكيل شخصية المسلم المعاصر تبدأ من محاضن التربية والثقافة التي هي بمثابة الرحم الذي تكبر فيه وتمتد وتتغذى قيم النهوض والبناء .