أتذكر وكأنه أمس استويت جالسا القرفصاء أتألم من ضرس آيل لتوديع فمي الصغير ، تحسسته بسبابتك اليمنى التي تشهدين بها عند كل صلاة وتشيرين بها الى السماء ، خاطبتني في حنان : ” ولدي هذا ضرس العقل لن يسقط الا بعد أيام ، هرعت مسرعة لتجلبي القرنفل أودعت حباته على الضرس وأنت ترددين البسملة وأنشودة الشتاء الخالدة : ” آ الشتا تاتا تاتا آوليدات الحراثة ، طيبولي خبزة بكري باش نعشي وليداتي …..”، تلاشى الألم بين صوتك الشجي وهزيع الليل البهيم ، استسلمت لنوم عميق كان يهيء لي على مهل حلما وأنت تضمينني الى حضنك الدافىء ، رأيت بعدها في منامي حراثا أبيض البشرة فارع الطول يأوي الى كوخه الجميل عند الغسق حاملا خبزة كبيرة وزعها على أبنائه الصغار المتحلقين على نور فانوس خافث ، كانوا سعداء يضحكون بملىء أفواههم فتضيق حذقات أعينهم لتصير كتلك التي عند العصافير ، بحثثت بعينين زائغتين عن أمهم لم تكن هناك بينهم ، ربما رحلت عن عالمهم الصغير مبكرا ، وربما كانت منشغلة بجلب الحطب من التلال البعيدة ، قصصت عليك أمي رؤياي صباحا وأنت تطهين الرغيف كعادتك بعد الفجر ولذلك عندما يصدح آذان الفجر أتذكر وجهك البشوش ورغيفك المغري ، تساءلت حينها أمام حيرتي : ” ومن أين سيأتي الحراث بخبزة كبيرة دافئة الى أولاده الصغار السعداء ، الأم القروية ابني تطهو الخبز في الفرن الطيني البعيد عن الكوخ ” ، انتزعت مني ابتسامة بعدما كنت غاضبا من حلمي الذي نزع الأم من أبنائها ووضعت كفي على موضع الضرس وأنا أراجع المحفوظات ، مرت الأيام وأنا أنتظرسقوط الضرس اللعين على أحر من الجمر ، ذات مساء جمعة وأنا ألوك علكة النعناع غادر الضرس مكانه في استسلام محارب منهزم ،حملته اليك جريا بيد مرتعشة ، أخذته مني مبسملة ورميته برفق في تربة الحديقة وأنت ترددين بجهر: ” سر يا ضرس الحمار وآجي يا ضرس الغزال ” ، ضحكت كثيرا لأنك تودعين غير آسفة كل مشين وتستقبلين كل جميل ، وصرت بعدها أنتظر ضرس الغزال الجميل ، ولأني كنت ترسلينني الى جدتي كل مساء جمعة فقد أجلستني بعدما اغتسلت ولبست أحسن الثياب وشرعت توصينني بثبات عما أبلغه لجدتي ، أخذت يدي وصرت تعدين بأناملي الطرية حتى لا أنسى ، وعندما حللت عندها وخانتني ذاكرتي الفتية غرفت من معين الخيال كثيرا . عندما كنت صغيرا وأنت تتعهديني بصبر وأناة ورضى وذلال ، عندما كنت أحتاج شربة ماء بعد كابوس طفولي في عمق الليل فتهرعين تالية آيات من القرآن ، عندما كانت تنتابني نوبات المرض والسقم فتنفضين يديك من كل شيء وتوقفين حركة الدنيا عند رأسي ، عندما حل ضرس الغزال فاستقبلته قبل مني بفرح وحبور أين كان العالم مني آنذاك ، كنت آنذاك عالمي الوحيد ، وصرت كذلك الى يومي هذا ، فأنت عالمي الوحيد الى الأبد أيتها القديسة العظيمة .