يعتبر الباحث مصطفى الغرافي من رواد البلاغة في العالم العربي. فهو من مواليد القصر الكبير، يشتغل أستاذا للبلاغة والنقد بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس. دكتور في البلاغة وتحليل الخطاب، صدر له العديد من المؤلفات والدراسات في هذا المجال، أبرزها : كتاب البلاغة والإيديولوجيا، دراسة في أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة، عن دار كنوز المعرفة، الأردن 2015، والذي وصل إلى اللائحة الطويلة لجائزة الشيخ زايد. كما شارك في نشر العديد من المؤلفات بالإشتراك، أهمها : بلاغة النص التراثي، عن دار العين، القاهرة 2013، الحجاج مفهومه ومجالاته، عن دار ابن النديم، الجزائر 2013، التداوليات وتحليل الخطاب، عن دار كنوز المعرفة، الأردن 2014، النغمة المواكبة، قراءات في أعمال عبد الله العروي، عن دار المدارس، المغرب، 2015…ومؤلفات أخرى في ميدان البلاغة والنقد وتحليل الخطاب. -كيف يرى الدكتور مصطفى الغرافي المشهد الأدبي العربي اليوم، وهل هناك نتاج أدبي ينسجم مع تطلعات القارئ؟ في البداية أشكرك على هذا الحوار الذي يتيح لي التواصل مع فئة عريضة من القراء. بالنسبة إلى السؤال عن المشهد الأدبي العربي اليوم أرى أنه لم يعد يخفى على أحد أن واقع الأدب ليس على ما يرام سواء عندنا أو عند غيرنا كما أوضح ذلك المنظر الفرنسي تودوروف في كتابه “الأدب في خطر” الذي أثار نقاشا واسعا عند ترجمته إلى اللغة العربية. إذ لم يعد الأديب يحظى بالقيمة الاعتبارية التي كانت له فيما مضى. لقد أصبح الاشتغال بالأدب عندنا مرادفا للعمل الذي ليس له جدوى ولا ينتظر منه فائدة. ذلك أن التحولات المتسارعة، التي طرأت على المجتمعات العربية، لم تنجح في تغيير التصور السائد عن النشاط الأدبي. ولذلك لم ترتق قراءة الأدب إلى أن تصبح سلوكا يوميا راسخا يمارسه أفراد المجتمع في جميع الأوقات وفي كل الفضاءات. وما دام الأمر لم يصر إلى هذه الحال فمن البدهي أن يرصد الباحثون والمهتمون بشؤون الأدب خللا كبيرا فيما يخص قراءة الأدب في المجتمعات العربية بشكل عام. إذ الأمر عندنا يختلف تماما عن الوضع في الغرب، حيث يشيع الاحتفاء بالمعرفة الأدبية وتشجيع الباحثين مما لا نكاد نجد له أثرا في واقعنا الثقافي؛ فهناك تقاليد قرائية تجعل الإنسان الأوروبي يقبل على التثقيف الذاتي من خلال قراءة الروايات والدواوين الشعرية في المقاهي والحدائق العامة ومحطات القطار مما يجعل فعل القراءة سلوكا يوميا. أما في المجتمعات العربية فهناك تبخيس ملحوظ للكتاب الأدبي الذي لا تقبل عليه سوى فئة قليلة تكاد تنحصر في الطلبة والمختصين بالدراسات الأدبية. ولذلك نجد بعض الكتاب الذين خاضوا مغامرة طبع كتبهم، خاصة في مجال الإبداع، على نفقتهم الخاصة يحتفظون بها في بيوتهم أو يوزعونها بأنفسهم على المكتبات والأكشاك ليكون مصيرها التلف. ومما يزيد من تفاقم أزمة الأدب النظرة الاجتماعية التي تحصر فعل القراءة في فئة خاصة يمثلون نخبة المجتمع وصفوته كما تشهد على ذلك الأرقام الهزيلة الخاصة بتوزيع الكتب والمطبوعات. إذ لا تتجاوز النسخ المطبوعة من الإصدار الجديد ألفين نسخة في أحسن الأحوال. ومن المفارقات اللافتة أن بعض الدراسات التي تناولت واقع الأدب في الوطن العربي دأبت على حصرقراءة الإنتاجات الأدبية في المدرسة باعتبارها فضاء وحيدا لممارسة النشاط القرائي. مما يجعل مشكلة الأدب تنحصر في فئة بعينها هي طلاب المدارس والجامعات. وبذلك تغدو مسؤولية تردي الواقع الأدبي من نصيب وزارة التعليم وحدها باعتبارها مكلفة بتدبير القطاع المدرسي. وما من شك أن هذا التشخيص قاصر ولا يمكن من وضع اليد على مكامن الخلل بدقة، لأن مسألة توسيع دائرة الاهتمام بالأدب لا تخص الأشخاص الذين هم في سن التمدرس فقط، ولكنها حاجة اجتماعية تهم جميع فئات المجتمع بقطع النظر عن السن أو المهنة أو الانتماء الطبقي. إذ القراءة عموما ومنها قراءة الأدب هي المدخل الرئيس لمجتمع المعرفة الذي يمثل عماد كل تحول مجتمعي مرتقب. ويستدعي تحقيق هذه الغاية تضافر جهود مختلف الفاعلين (الباحثين والتربويين والمثقفين والسياسيين) من أجل النهوض بالوضع الأدبي والعمل على جعل قراءة الأدب سلوكا يوميا يمارسه الناس في المدارس والمقاهي والطرقات. -ماهي حدود تلقي النص العربي من الناحية البلاغية ؟ تمثل المقاربة البلاغة بحدودها الموسعة، كما توظف في الدراسات البلاغية المعاصرة، “سميائية أنواع الخطاب” كما وصفها جيرار جونيت أو هي “علم واسع للمجتمع” كما أرادها هنريش بليث؛ فهدف البلاغة في مفهومها العلمي الحديث لم يعد مقتصرا، كما في السابق، على التنظير للقواعد التي يتم بحسبها إنتاج الخطاب، وإنما تحولت إلى منهج لوصف النصوص وتحليلها. إنها نظرية في تحليل الخطاب. وقد أظهرت البلاغة كثيرا من المرونة بوصفها أداة منهجية وإجرائية تستطيع وصف وتفسير مختلف أنواع الخطاب كما أثبتت دراسات بلاغية معاصرة. مما جعل النموذج البلاغي للتواصل منهجا للفهم النصي يتعاطى وصف وتحليل جميع أنواع الخطاب الممكنة. ذلك أن البلاغة، في التوظيف الحديث، تتجاوز النظرة الضيقة التي تختزل الدراسة البلاغية في الصياغة ووجوه الأسلوب لتفتح الباب على مصراعيه أمام المحلل البلاغي لوصف أنواع الخطاب المختلفة وتفسيرها انطلاقا من مبادئ وأصول عامة يشتقها المحلل البلاغي من النصوص التي ينظر فيها ويجرب على أرضها اختياراته البلاغية. ولذلك فالتحليل البلاغي لا ينحصر في وصف وتفسير مظاهر الجمال في النصوص ولكنه يتجاوز ذلك إلى تفسير ما يكون به النص فاعلا ومؤثرا؛ أي أنه يزاوج بين البعد الجمالي والغرض الحجاجي في النصوص والخطابات. وهو ما حاولت إنجازه في كتابي “البلاغة والإيديولوجي” من خلال الانكباب على دراسة أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة دراسة بلاغية. ويرجع اختيار البلاغة منهجا للتحليل النصي إلى كفاءته وفعاليته في الكشف عن الخصائص التي تميز بلاغة الخطاب النثري عند ابن قتيبة في بعديها المعرفي والجمالي، فقد ارتبط هذا النثر بسياقات معرفية وعقدية جعلت منه خطابا تواصليا ينبني في أغلب الأحيان على الفعل التحريضى المدعوم بالتأثير البلاغي. وهو ما استوجب البحث في الوسائل التي تمنح الأنواع النثرية خصائصه الجمالية والإقناعية في نفس الآن. يشهد المشهد الأدبي اليوم تراجع مكانة الشعر، هل غيّبته الرواية؟ تشهد الثقافة العربية اليوم صعودا لافتا لجنس السرد عموما والرواية على نحو أخص، حيث بتنا نعيش “زمن الرواية” بعد فترة طويلة من “زمن الشعر”، حيث كان الشعر هو الجنس الأدبي المهيمن و المسيطر، حيث كان الشعر “علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه” بتعبير الخليفة عمر ابن الخطاب الذي كان على دراية كبيرة بالشعر وفنونه، حيث مثل الشعر “ديوان” العرب” الحاضن لهويتهم الثقافية والحضارية. وبسبب التحولات التي عرفها الواقع الاجتماعي والثقافي انسحب الشعر من صدارة الأنواع الأدبية فاسحا المجال أمام الرواية التي عرفت ازدهارا ملحوظا في الوقت الحالي، حيث بدأنا نشهد هجرة جماعية إلى الرواية. إذ يكتبها المؤرخون (عبد الله العروي- أحمد التوفيق) والمفكرون (بنسالم حميش- بنسعيد العلوي) والشعراء (محمد الأشعري- حسن نجمي) ونقاد الأدب (حميد لحمداني- شكري المبخوت). ويرجع هذا الإقبال منقطع النظير على جنس الرواية إبداعا وتلقيا إلى كونها مثلت إطارا ملائما للتعبير عن قضايا العصر وهموم الإنسان الحديث بسبب تكوينها البلاغي وخصائصها النوعية؛ فإذا كان الشعر يتميز ببلاغة التكثيف، فإن جمالية الرواية تقوم على بلاغة التفاصيل، وهو ما يتيح للروائي التعمق في مكنون الشخصيات واستقصاء التجارب الإنسانية في حالاتها الوجودية القصوى المطبوعة بالتجريد والتعقيد. وما من شك أن هذه الخصائص تمكن الروائي الموهوب من ربط الوجود الإنساني بتيار الحياة النابض والجارف، حيث يقدم لقارئه تمثيلات سردية تجسد الأوضاع الإنسانية باعتبارها حالات وجودية منمذجة يمكن لكل قارئ أن يجد فيها تصويرا لوجود الخاص وتجسيدا لهواجسه وانشغالاته. ولذلك كانت أهم سمة تميز التخييل الروائي أنه يمتلك القدرة، بفضل تكوينه البلاغي المخصوص، على الالتحام بالحياة وتمثيلها للقاريء في أبعادها وتجلياتها المختلفة. وهنا تكمن قوة السرد الروائي؛ فهو خطاب قادر على خلق عوالم تخييلية على هامش الواقع الأصلي تتيح للمتلقي تجريب إمكانات واحتمالات عديدة للحياة والوجود. وبذلك يتحرر القارئ من قيود الواقع ليعيش تجربة الحدود القصوى، حيث سحر الحكاية وفتنة السرد التي تجعل من الروائي خالقا يصنع حياة ومصائر جديدة تتيح للقارئ تجربة الحدود القصوى للإمكان الإنساني، فالرواية هو الشكل الأدبي القادر على تجسيد “حكمة اللايقين” كما أوضح ذلك ميلان كونديرا في كتابه “فن الرواية”. – ماهي العلاقة التي تربط بين الكاتب والقارئ، هل علاقة تنافر وتضارب أم أن القارئ العربي لم يصل بعد لمستوى القارئ النموذجي ؟ تمثل القراءة، في التصور الحديث، أفقا مفتوحا على المعنى، ليس باعتباره ماهية ضائعة يتعين البحث عنها والقبض عليها، ولكن بوصفه إمكانا دلاليا يفتح اتجاها جديدا أمام الفهم والتفسير. وهو ما يجعل القارئ فاعلا حقيقيا في عملية تلقي النصوص وتحليل الخطابات. إنه طرف أساس في عملية التواصل الأدبي التي يقيمها المؤلف مع قارئه. فكل مؤلف يتوجه بخطابه إلى قارئه المحتمل الذي يفترض مواصفاته وفي ضوئها ينشيء نصوصه. ويعني ذلك أن القراءة فعل يتأسس على المشاركة بين قصدية القارئ وبين قصدية المؤلف. ولا يمكن لأحدهما أن ينفرد بتحديد المعنى المقصود في استقلال عن الآخر؛ فالمؤلف يفرض من خلال الإنتاج النصي على القارئ شروطه، التي تحدد أفق القراءة، وتوجه مسارات التأويل، والقارئ يفرض سلطته على نتاج المؤلف عن طريق التحكم في صور الفهم وأشكال التأويل التي يخضعها لحاجاته ومصالحه. ولذلك تتسم العلاقة بين المؤلف وقارئه بالتوتر في كثير من الأحيان، حيث يطمح المؤلف إلى إنجاز خطاب تتوافر فيه الخصائص الإبداعية (عندما يتعلق الأمر بنشاط إبداعي)، والشروط العلمية الصارمة (في حالة الكتابة الأكاديمية الرصينة) في حين يتوقع القارئ العام من المؤلف أن يصوغ خطابه وفق قدراته وكفاياته. وقد عبر الجاحظ عن العلاقة المتأزمة التي تجمع الكاتب بقارئه عندما نصح في مقدمة كتابه الحيوان الكاتب بألا يؤلف كتابا إلا والناس كلهم له أعداء. ولعل أبرز مثال على علاقة التوتر بين الكاتب والقاريء هو أبو تمام الذي تميز شعره بكونه لا يستجيب لأفق انتظار قرائه، فسأله أحد متلقيه (ابن الأعرابي) هذا السؤال المعضلة: لماذا تقول ما لا يفهم؟، فأجابه أبو تمام: ولماذا لا تفهم ما يقال. إذن، الإشكال سيظل دائما مطروحا على التفكير الأدبي: هل يتوجب على الكاتب أن يراعي قدرات قرائه من جميع الفئات، أم إنه مطلوب من القارئ أن يرتقي بذائقته وكفاءته التحليلية إلى مستوى الكاتب. كيف تعرف النص الأدبي الحديث وماهي حدود تأويله وتلقيه؟ تتميز نصوص الحداثة بسعيها المحموم إلى تحقيق تميزها وفرادتها قياسا إلى أشكال الكتابة المتحدرة من الماضي، فالمبدع الحداثي يحدد إنتاجه بأنه رفض للجاهز والمعتاد وسعي مستمر إلى التجاوز والتخطي. ومن هنا برز في بيانات الكتابة التي اجترحها منظرو الحداثة ميل واضح إلى التمرد على سلطة النموذج الموروث من أجل التأسيس لكتابة جديدة مختلفة تجسد هموم وانشغالات الإنسان المعاصر، فإذا كانت المضامين جديدة، فإن الأشكال التعبيرية ينبغي أن تتلاءم مع هواجس التجديد التي استبدت بالوعي الجمالي لشعراء ونقاد الحداثة. ومن الطبيعي أن يؤدي الأفق الإبداعي الجديد إلى تغيير في مناهج قراءة وتلقي الخطابات التي أنتجها كتاب الحداثة. فقد تغير مفهوم النص والكتابة والقراءة، مما فرض ظهور طرائق حديثة قادرة على الغوص في التشكيلات الجمالية الجديدة والكشف عن أنساقها الجمالية وتكويناتها البلاغية، حيث أصبح فعل القراءة يتشيد من خلال إعادة إنتاج النص وتركيبه، بما يتيح اكتشاف غناه وأصالته، باعتباره فضاء للمعنى وحقلا للتجارب الإنسانية. إن القراءة، تبعا لهذا التصور، أفق مفتوح على المعنى، ليس باعتباره ماهية ضائعة يتعين البحث عنها والقبض عليها، ولكن بوصفه إمكانا دلاليا يفتح اتجاها جديدا أمام الفهم والتفسير. ذلك أن كل قارئ يطرح على النص أسئلة جديدة ومختلفة يستمدها من واقعه الاجتماعي والثقافي. مما يؤدي بالضرورة إلى الحصول على أجوبة مغايرة لتلك التي تلقاها القراء التاريخيون، الذين تعاقبوا على قراءة النص وتفسيره. وهو ما يسمح بالحديث عن تعدد صور المعنى التي تتنوع حسب تجربة القارئ وثقافته. ومن هنا كانت القراءة لا تسعى، بوصفها فعالية إنتاجية، إلى التطابق مع المقروء بقدر ما تطمح إلى التباعد عنه، لأن فهم النصوص يتأسس على قاعدة الاختلاف والمغايرة وليس التشابه والمماثلة. وفي اعتقادي أن الكتابة التي تجترح طرائق جديدة في بناء معمارها الجمالي تستدعي أدوات قرائية حديثة من أجل الكشف عن غناها الجمالي وثرائها الإبداعي. ولعل أول خطوة في هذه الطريق الوعي بالتحولات التي طرأت على الواقع الاجتماعي والحضاري التي فرضت أشكالا تعبيرية جديدة تستطيع التعبير عن روح العصر، لأن الأدب لا ينفصل عن الحياة وتيارها الجارف، وكذلك الناقد عليه أن يتقن الإنصات إلى الجماليات التي تتوسل بها خطابات الحداثة من أجل تمثيل الواقع وتجسيد هموم الإنسان المعاصر بطريقة تراعي شروط وضوابط الكتابة الإبداعية. ما هو تقييمك كباحث للشعر العربي الحديث؟ يكشف النظر إلى المتن الشعري الذي راكمه شعراء الحداثة العربية أنه يصدر عن هاجس إبداعي يتمثل في وعي الشاعر العربي المعاصر بأن الكتابة الشعرية تحديدا هي مجال الأسئلة الوجودية الحارقة. انطلاقا من هذا الوعي يكتب الشاعر العربي المعاصر قصيدته متفاعلا مع الأفق الإنساني الرحب والكوني. فهو لا يكتب لقارئ معين، ولكنه يكتب للإنسان حيثما كان. ومن هنا تميز الأفق الشعري العربي بانفتاحه على مختلف التجارب الإبداعية في بعدها الجمالي والإنساني. والحق أن الشاعر العربي المعاصر استطاع أن يراكم تجربة إبداعية غنية تجسد أحلام الفرد العربي وآلامه على حد سواء، حيث نجد عديدا من الشعراء في الأقطار العربية يحرصون كل الحرص على الشرط الجمالي دون التفريط في الأسئلة الكبرى التي تهم واقع المجتمعات العربية. ولذلك جاءت كثير من القصائد والمجاميع الشعرية مسكونة بالسؤال الوجودي في بعده المحلي والكوني، حيث ينطلق الشاعر العربي المعاصر من انشغالاته الشخصية ليعانق هموم مجتمعه التي تلتقي بالإشكالات العويصة التي تؤرق الإنسانية. ومن أجل التعبير عن هواجس الواقع الإنساني في أبعاده وتجلياته المختلفة، انفتح الشاعر العربي على مختلف الحقول المعرفية والتجارب الثقافية التي اجترحتها الإنسانية في تاريخها الطويل. ولذلك زخرت الشعرية العربية الحديثة بغنى رمزي وجمالي بارز. مما جعلها لصيقة بواقع العصر وهموم الإنسان المعاصر. وبالجملة تمثل الشعرية العربية الحديثة إسهاما في تطوير حركة الشعر العالمي في بعده الإنساني والكوني. سبق لك واشتغلت على محمود درويش، ماهي أهم سمات شعره وشاعريته؟ يمثل درويش حالة شعرية متميزة في تاريخ الأدب العربي قديمه وحديثه نظرا لما امتلكه من سلطة رمزية ومرجعية، كرسته باعتباره الوريث الشرعي للقصيدة العربية وما راكمته من تراث فني وجمالي عبر العصور. لقد استطاع هذا الشاعر أن يرسم لنفسه –وبفرادة- خارطة خاصة في جغرافيا الشعر الحديث، كما استطاع أن يحفر لشعره خندقا عميقا في قلوب قارئيه قبل أن يحفره بأظافره في أرض شعرنا الحديث. وعلى الرغم من الأشعار الكثيرة التي كتبها درويش، والدواوين العديدة التي أصدرها، فإن النقد لم يجرؤ على الاقتراب من صرحه الشعري، لتحليله والكشف عن جمالياته باستثناء دراسات معدودة. وعندما التفت النقد إلى شعر درويش لم ينظر إليه باعتباره تجربة أدبية خاصة تستحق التفات الدارسين ونقاد الأدب. بل جاء ذلك في حمى الاهتمام بالشعر العربي القادم من الأرض المحتلة، الذي كسب عطف الناس وتعاطف النقد، لكونه قادما من الأرض التي يعاني أبناؤها محن الاحتلال والقتل والتجويع. ولذلك نظر النقاد إلى الشعر القادم من الأرض المحتلة بكثير من العطف، فلم يخضعوه لمقاييس روح الشعر وشروط الإبداع، بل رحبوا بكل ما يأتي من الأرض المحتلة من نصوص بقطع النظر عن مدى استجابتها للمقاييس الأدبية والجمالية. وقد رأى درويش أن الاحتفاء المبالغ فيه من شأنه أن يخنق روح الإبداع في هذه النصوص. وقد نبه إلى هذا الوضع في مقاله “أنقذونا من هذا الحب القاسي”، الذي طالب فيه النقاد بأن يتعاملوا مع الشعر القادم من الأرض المحتلة باعتباره “شعرا” وجزءا من الحركة الشعرية العربية. لقد كان درويش أول ضحية لهذا “الحب القاسي”؛ فنقاد الحداثة لم يعاملوا نصوصه بوصفها شعرا خالصا؛ أي جنسا أدبيا يستمد خصائصه التي خلدته من نظامه الجمالي وليس من مضمونه السياسي، ولكنهم اهتموا في الأعم الأغلب بمضمون ومحتوى أعماله التي جرى النظر إليها بوصفها وثيقة تاريخية تؤرخ لما يحدث في أرض فلسطينالمحتلة. وإذا كان لا أحد يستطيع أن ينكر العلاقة الوطيدة بين شعر درويش والقضية الفلسطينية، فإن ما حاولت التنبيه إليه، في الدراسات التي خصصتها لشعر درويش، هو أن درويش شاعر قبل كل شيء، وما يكتبه هو “شعر” بالدرجة الأولى وليس منشورات سياسية. لقد كان درويش يحلم دائما أن يكون شعره ملحمة الحياة العربية الحديثة لكن التجارب الأليمة التي عاشها شعبه أملت على قصائده إيقاعا مأساويا حزينا وموجعا. لم تفسح له الأحداث الفاجعة التي تعاقبت على أرضه وشعبه مجالا لتدشين القول في البطولات التاريخية المنتصرة. لم يعد يملك أمام الخيبات العربية المتوالية سوى الغناء لانكسار الروح وتمجيد ملحمة الانتصار التي يصنعها الفلسطيني بدمه وعذاباته. وقد مثل هذا النوع من الغناء أرقى أشكال المقاومة لأنه يقوي الإيمان بالمستقبل العصي على الولادة لكنه الفجر الموعود الذي يتخايل بين أرواح الفدائيين الذين يقومون بأنبل الأفعال الإنسانية في مواجهة الموت والحصار: “تربية الأمل”. وبعد أن غنى درويش طويلا للشهداء أنهكه الموت الجماعي انكفأ على ذاته يبثها أحزانه وأشجانه في مجموعة من دواوينه الأخيرة مثل “لا تعتذر عما فعلت” و”لماذا تركت الحصان وحيدا” و “سرير الغريبة” إلى “حالة حصار” و “كزهر اللوز أو أبعد” وانتهاء بنص “في حضرة الغياب” مرورا ب “الجدارية” التي كرسها درويش بكاملها لموضوعة الموت. ويظهر التأمل الدقيق في القصائد المتأخرة التي أنجزها درويش أن الرؤيا الشعرية فيها أصبحت تميل إلى الانكفاء على الذات، حيث تتعدد المشاهد وتتنوع من أجل نقل هموم الذات وأشجانها في تكثيف شعري فياض وأخاذ. لقد اكتملت أدوات الشاعر التي بناها من الاستعارات المبتكرة والحزن الشفيف، فأصبح مهووسا بتحقيق ما أسماه، في أحد الحوارات، ب “الخلاص الجمالي”. *عثمان بوطسان، كاتب وباحث مغربي