"آه من يوم الخفافيش ذاك " قالها بنبرة كسيرة , وهو يعض على شفته السفلى. وختم لوعته بما كانت ستؤول إليه الكارثة: ربما كانت حربا ضروسا تعبث بالحي قاطبة. حك حميد أرنبة أنفه الذي خاتلته قطرة ماء تسللت من سقيفة الناغوري وانبرى يعدد حوادث يوم الخفافيش ,ساهما , كأنه يمررها أمام ناظريه: اجتاحت تلك الخفافيش المقبرة في تلك العشية وكادت تستحيل إلى شبح ونشب عراك بين الكشاشرة وأشراس حينا على مومس استدرجوها إلى الضريح. . ويومها غرق رضوان في الوادي . وانغرز الساطور في رأس عيوش في غرسته . وكاد الجرح الغائر يقضي على حياة بوسلهام ويومها وقع عبيد القادر صريعا بمسوس شياطين المقبرة وهو يلتهم لحم دجاج الماء رفقه عسيلة وحسن. . وقضم ضنين بأنيابه عجيزة عادل كان حميد يعدد تلك الحوادث مصطنعا تلك النبرة الحزينة, لكن عادل فطن للمكر, فراغ بوجهه إليه, ورنا إليه بفتور فاصطخب حميد ضاحكا حتى باتت السقيفة ترتج للضحكات المدوية. ظل عادل يداري غصاته بألم فاستسلم للأنظار الماكرة تحدجه متخابثة, فكان يدني أذنه اليسرى إلى الجدار القصديري لبائع المعقودات لتتبدد الكلمات النابية مع صوت المقلاة. حاول أن يعيد الاعتبار لشرفه فصاح من أقصى الزاوية ووجهه ينغمر في سحابة دخان المقلاة: . لولم يمنعني هشام وأمه لقتلته فضج الجميع ضاحكين بتشفي. سحب جدعه من الزاوية وامترق ثم انفتل جهة منزله ينبعث من رأسه دخان يكشفه ضوء عمود مناوح لمدرسة السدراوي. أحس أنه لا يحتل إلا فراغا في هذا الحي.فخب في مسيره تشيعه قهقهات عسيلة وحسن وحميد. وحتى ميلود المقعد انبرى ينبزه بكلماته التي ما إن يلفظها حتى تصيب الخصم في الأعماق. وكعادته هذه المرة أحكم التصويب ودقق فارتج فوق كرسيه، وتنهد كرات بعمق بعد أن ابتلع قرصا . وقبل أن يدنو عادل من دار "هرواة" صاح ميلود بعد رنوة طويلة: تعالى يا أيها القط المطاط واستوفزوا جميعا للقيام، وشرعوا يرددون باهتياج القط المطاط! القط المطاط انفتل عادل إليهم ونفث الألقاب وسب المقدس والمدنس.واهتبل المطر الذي بدأ يهطل بغزارة فشرع يكفكف مآقيه في كنف إفريز دار هراوة الواطئ. عندما ولج البيت التهم الدرج بخفة. ودلف إلى الحجرة الصغيرة المركونة إلى دار البسيوني، أطبق المصراعين ثم أزلجهما بإحكام. وشرع يجيل بصره إلى الجدار. كان خاله عبد السلام يضاحكه بود حتى يخال أنه على وشك أن يبرح الصورة ليعانقه كعادته عندما يعود من فرنسا عند حلول المصايف. لكن عادل انتهره بنبرة حازمة يعروها اليأس و التذمر: ! هل تدري ماذا صنعت يا خالي العزيز؟ لكنه ظل يرسل ضحكاته المتتالية بتؤدة. يبرز طقم أسنانه النضيد، ويزعق بعربدة. وعادل يتنمر فوق السجاد اللين، يحتضن رأسه الكبير براحتيه . كسر الدولاب من الخلف, وعيناه تزمهران, فسدحه إلى الجدار عندما تردد في خلده وعيد أمه المحرور "هذا القط المطاط لا يمكنك أن تلعب به بعد اليوم , إنه يجلب لك الشؤم. وحاذر أن تحاول إخراجه من هذا الدولاب" الآن وقد أيقن أن قرار أمه كان حكيما فكر في الخلاص من الشؤم. لكن كيف؟ فالقط المطاط , برأسه الضخم, وأطرافه الدقيقة طوى خمس أعوام بتمامها. يصاحبه في سفراته، وفي نزهاته، وحتى نسوة الحارة ألفنه وأشفقن به. خصوصا وأنه كان صبورا، يصفح عمن ظلمه ويداري الثالبين, وحتى ذوي الأنامل النزقة كان يعاملهم بود، يزغدونه فيطأطأ رأسه بخضوع، يسدحونه على الأديم لينط فلا يزعق متذمرا أو ينبس ببنت شفة, ولا يكون منه في غضبته الكاسحة غير أن يرخى كلكله إلى جدار أو أديم. وحتى عندما رغب عزيز أن يغرقه في "دار الطلياني" انغمر حتى ذهل عادل وكاد يجهش. لكن القط المطاط , بسحنته الصفراء الفاقعة, صعد كالصاروخ منتصب القامة وهو يتحلب ماء وفخرا , ومنتشيا كأنه بطل لا يهد , غير هياب ولو حتى في لجة دار الطلياني التي يهابها جل صبية حارتنا, حتى حانت لحظة الحسم يوم مانعت جلاسة الحمام "فاطنة" ولوج عادل الحمام بدعوى الفطنة. شرع عادل يغطس القط في حوض مركون إلى زاوية داخل الحمام، وجعل جسده ينغمر ولا يبدو منه غير الرأس, فسعت إليه امرأة، وسحبته لتغترف الماء الساخن، وعيناها تكادان تمرقان من محاجرهما خشية أم عادل الشرسة.نظر إلى المرأة بعربدة وسدد إليها ,بحنق, نظراته المعهودة. لكنها ردت بالصاع صاعين خلسة من أمه. ولولا صياح النسوة و هدير الصنبور الأصفر لهبت أم عادل من فورها ونشبت أظفارها في جسد المرأة. سحب عادل القط من (البرمة) الساخنة يائسا وانسحب وهو يتميز غيظا. رفعت المرأة عقيرتها لتسمع النسوان نكيرها بأدب جم: "هذا الماء الساخن ليس للعبث يا بني!" فأطبق الصمت على زوايا الحمام, وشرعن يحملقن باندهاش إلى الرأسين الكبيرين والجسدين الضئيلين المتضامين حتى خلنه توأمان .انسحبت المرأة لتلبي رغبة أمها العجوز , وما إن رمقت هذه الأخيرة الرأسين المتضامين حتى نبرت : خذ أخاك و انسحب الى أمك . كلمات شرخت الصمت المدوي ونالت من عادل و من أم عادل، وحتى القط تنمر واهتاج وطوح بنفسه أرضا، وضج الحمام واندلقت الكلمات النابية من هنا و هناك،و سفك النسوان المياه بعضهن بعضا. وباتت الدلاء تعوي وتتدحرج. عند باب الحمام لفظ عادل كلمات مقرفة لم تدع مجالا لأمه للاحتجاج. نظر عادل- وهو يمسح على رأس قطه - إلى غريمته وأجال ناظريه في جسدها البض ونبر بحنق: إن ثديك كبير مثل هذا الرأس نظرت الجلاسة إلى أم عادل، وبسطت راحتيها وقالت بفتور مفتعل: ألم أقل لك إن ابنك قد شاخ استسلمت الأم وسحبت سوءتها من بين الأجساد العارية.وامترقت وهي واثقة أن العناد لن يجلب لها إلا الشؤم. أمسكت القط ووضعته داخل الدولاب.والقط بسمته المعهود أبدى انصياعا لرغبتها. ربما أحس برغبة في الانطواء على ذاته ليحاسبها على الإفراط في التسامح، فانهد داخل الدولاب مستلسما كالأموات في نواويسهم، تهمد على النعوش ثم يأتون بهم بصمت فيوضعون داخل تلك الحفر ولا يتكلمون أو يحتجون على ضيق الرموس. و لم يتذمر لضيق الدولاب، أبدى أريحية مفرطة للاختفاء عن أنظار عادل وهو يجهش ويتلوى فوق السجاد. سحب القط من خلف الدولاب بعد أن كسره. وأسنده إلى الجدار تحت صورة خاله. وتعمد الدقة بحيث لو سقط وجه خاله الضحوك لجثم على القط وهذه معركة يشتهيها الآن، بل هو يرغب في أن يشاهد ضراوة تفوق انهمار الحمم البركانية على سهول بريئة لتمحقها من الوجود. بله أن تسقط صورة الجاني الذي ألب عليه صبية الحارة لينبزونه بالقط المطاط. نظر إليه بوهن , ما يزال يضحك بعربدة ويبدي صلفا بشامته الناتئة تحت خده الأيسر. تحسس عادل شامته وكاد ينزعها ليتخلص من كل وشيجة تصله إلى هذا الوجه الساخر بسماجة مكرورة, وبدأ لحظة حاسمة في حياته. هل هو الوعي الطفولي الذي ينقدح في الطفولة فيبلغ شأوا ينذر أن يبلغه الكبار؟ إن تصفية الحساب مع الغرماء لا يتداولها إلا الحكام والعظماء . كم هي عواطف الأطفال مفخخة بالبراءة ! لكنها لا تعني في كثير من الأحيان السداجة التي ينعتها الكبار شيطنة الأطفال. أليس نلمح في الطفولة احتيالات تفعم الكبار باندهاش يختلس منهم اعتدادهم بالدهاء والرجحان؟ وكعادته مع حساباته الدقيقة نبر باحتداد و هو يمرر نظراته من الصورة الى القط المطاط واحد , اثنان , ثلاثة, و بدأ لحظة الحسم .كان يريد أن يصفي حسابه بثقة و كأنه قاضي يصدر أحكامه بصرامة . غير أن القط لم يكن ينظر إليه كالعادة.كانت حدقتاه الناتئتان قد اختفتا بالكامل .لكزه فزعق من ناحية غير معروفة من جسده . تأوه و هو يبحلق إليه و أشداقه تتدلى . و لمح النموش السوداء المنثورة على جسده و الندبة الطويلة التي تمتد من جبهته حتى أسفل البطن, رنا الى الصورة و حرزقائلا : ها قد فعلتها أيها المأفون . نزع الصورة بعنجهية و هو يحمحم كأنه فرس حرونة تعدو بلا رسن . أمسكها و طفق يدنيها من وجه القط , و بعد رنوة متفحصة هتف: أنت الذي فقأت عينيه بهذا السيجار هههههها ففقأ عيني خاله. و أنت الذي ندبته فسحب أحمر شفاه أمه و ندبه وأنت الذي ألقيت عليه هذه البقع السوداء فلطخ وجهه بأحمر الشفاه و أنت الذي نخسته وأخيرا مزق الصورة مزعا.وتنفس الصعداء. رمق القط و طفق يجوسه منتشيا بتفصية حساباته في الوقت المناسب وبالشكل المطلوب.تراجع خطوات إلى الوراء في اتجاه الدولاب وعيناه مسمرتان على القط المطاط الذي تملكه الهلع فانبطح .كانت هذه هي المرة الأولى التي لم تسعفه يدا صديقه الحميم النزقتان اللتان كانتا تسابق الزمن لتلتقطه قبل أن يقع أو يميل .سحب موسى وتقدم في اتجاهه . لقد تعمد الرحمة بالقط المطاط , تماما كما يصنع المعلم قاسم الذي كان يخفي المدية عن عيني أضحية العيد ثم ينحر الودجين بسلاسة. لكن فكرة البدء بالودجين بدت له سخيفة لأن القط لم يكن سليما مثل الأضاحي التي كانت أمه تختارها و تتفحصها لتتأكد من سلامتها من العيوب . رنا إلى الندبة الطويلة والى النموش المنثورة على كاهله وأطرافه . جثا أمامه و مسح على جسده بحنو بالغ و شرع يقلب ذكريات خمسة أعوام من الصداقة الحميمة حتى بات القرناء ينعتونه بالقط المطاط . وحرن عليه فجأة وهب يشلح جسده .مسكه من رأسه وشرع ينقر جمجمته ويهامسه قائلا: أنت يا صديقي ودود وصبور لكنك تجلب الشؤم أحيانا كانت قامة عادل قد ربت عليه قليلا ولما لاحظ ذلك نقر جمجمته ثانية وهمس: وها قد أصبحت قزما فكيف أصاحب قزما ؟ قد ينبزونني بالقزم أيضا . ولكزه في حرقفته فتهاوى ,و هذه المرة اهتاج و لوح بالمدية الطويلة . وصاح به: والآن استعد للموت. وشرع يتحسس جسده باحثا عن الثقب الذي اقترفته الجردان في جسد القط. أوغل المدية في الثقب و شرع يفرمه. مزق القط إلى مزع سبعة. فمادام للقط سبعة أرواح فقد مزعه سبعا. الآن انتهت صداقة خمس سنوات وانتهت حكاية القط المطاط الذي جلب لعادل الشؤم, حمل أشلاءه و تدحرج مع الدرج و قلبه يكاد ينفطر خوفا من أمه التي كانت تعد وجبة العشاء. رمقها من تفاريج الدرابزين , كانت تدندن منتشية فامترق عبر الردهة المظلمة المفضية إلى الباب.أطل برأسه وأشال ناظريه في الشرفات والنوافذ والكوات ثم سدح الأشلاء السبعة في دلو القمامة. في الصباح سمع همرجة النسوة مع بائع الحليب .كن يتحدثن عن نهاية القط المطاط الحزينة وكن يتضاحكن بتشف. وكلما انتهي إلى مسمعه ذكر القط المطاط ازبأر جلده وهو مايزال ملتحفا , وبات على يقين أن اللقب سيظل يطارده حتى على شفاه النسوان في (الملاكات) والولائم والعقيقات. شروط التعليقات الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن وجهات نظر أصحابها وليس عن رأي ksar24.com