تصادفني في عملي مواقف لا يمكن نسيانها لأنها تترك نفسي جذاذا تستعصي على اللملمة.. تبدأ الحكاية بورم بطول بوصة واحدة، يجعل المريضة تنتقل من طبيب إلى طبيب، مما يتطلب أشعة وتحاليل، ثم جراحة صغيرة لأجل تشريح مرضي، تتلوها جراحة ثقيلة يتم فيها استئصال ثديها بالكامل، ويعرى صدرها لتبدو أضلاعها النحيفة. تمكنت منها كآبة سوداء لبست بسببها الحداد لعدة شهور، ثديها الجميل كرمانة ناضجة، غادر حمالة صدرها بلا عودة إلى مثواه الأخير في مدينة نائية عن سكناها، بعد سنتين تامتين ستفقد ثديها الأخرى في مصحة بالعاصمة...كم هو رهيب أن تتساقط عنك أعضاؤك كأوراق نهاية الخريف، وكم هو قاس أن تموت بالتقسيط وتدفن مُزعة مُزعة في مقابر متفرقة. طوت حمالات صدرها في درج أسفل الدولاب وهي تتذكر قصة كل واحدة منها، متى اشترتها؟ كيف انتقتها؟ من أهداها إياها؟... فكرت أن تتصدق بها ثم أحجمت عن ذلك وتشاءمت من أن يكون مصيرها كمصير ملابس الموتى التي يقتسمها الورثة، أفكار تضيف إلى حزنها مزيدا من الألم. أحكمت إغلاق الدرج في محاولة وأد بقية من عطر تسلل إلى أنفها يذكرها بطقس جميل...طقس إزالتها وفكها، الذي كان يتلهف عليه زوجها.. ثم تليه لحظات ولوجهما رتاج الجنة الدنيوية الحميمية... تقف للحظات أمام المرآة ثم تشيح بوجهها عنها، لقد أصبحت تنكر نفسها، تغير لونها وغارت عيونها وصارت تشبه شبحا أو خيالا مخيفا... لم تكن هذه المآسي لتكفيها، فموقف رفيق عمرها كان كذر الملح فوق الجرح... صارحها بأنه لم يعد يقدر على الاقتراب منها بعد أن فقدت كل مقومات الإغراء والغواية... ولما انفعلت وصرخت في وجهه بأنها لن تمضي على ورقة زواجه من الثانية... تجرأ في وقاحة وأطلق عليها كلاب لسانه المسعورة لتنهش آخر جنود كبريائها وصمودها: «هذا عقاب من الله.. تستحقين أكثر منه..يا...» ثم غادر البيت ليتزوج زواجا عرفيا.. إن إعلان الطبيب للزوجين عن مرض السرطان، يُحدث في العلاقة الأسرية السعيدة والحياة الهنيئة أو ربما العادية، زلزالا عنيفا يحار سلم «ريشتر» في رصده، يتصدع بفعله جدار الجنس القوي الذي يلم شعث الأزواج. فالجنس يعني العلاقة الحميمية والمتعة الجارفة والتوالد والتكاثر والحب والعاطفة والحياة، أما السرطان فيرادف الموت والفراق والحزن والضياع والسواد.. التفكير في الجنس في حضرة السرطان يدفع به إلى مراتب متدنية في سلم الاهتمامات، فالأولى منطقيا هو ضرورة العلاج والتداوي. لأن المرض من أخطر ما يصيب الصحة، وما عاداه يلج في خانة الكماليات والرفاهية. لا مفر من الاعتراف بأن للعلاجات السرطانية من جراحة وأدوية كيماوية وأشعة نووية، آثارا جانبية تؤثر بشكل مباشر على الحياة الجنسية. 90 في المائة من النساء يشتكين من صعوبات جنسية بعد تشخيص مرض سرطاني. حسب الباحثين بامي وموندان(2001)، في دراسة تابعت مريضات يعالجن من أورام خبيثة، لوحظ التالي: 64 في المائة فقدان الرغبة أو الشهية الجنسية. 38 في المائة آلام أثناء الجماع. 42 في المائة مشاكل في الإفرازات المهبلية. 30 في المائة انعدام الرعشة الجنسية. نزول السرطان ضيفا ثقيلا بين الزوجين يؤثر بطريقة مختلفة على كليهما، وتعد كيفية تلقي الصدمة النفسية وقوتها مؤشرا على مستقبل المعاناة، وليس الشخص المصاب من يستحوذ على حصة الأسد منها، بل قد يكون الشريك أيضا، سواء نتيجة لهشاشة نفسية: (كيف سيصير حالي بعد اليوم؟) أو للأنانية الزائدة : (لم يكن ينقصني إلا هذا؟) وكلها ردود أفعال تحدد السلوك العاطفي والحسي والجنسي للشريكين. من الطبيعي جدا للمريض في مرحلة أولى، مرحلة الاكتشاف والصدمة أن يرتب الجنس والرغبة والمتعة في درجة متأخرة من اهتماماته، فهو يقف في رأيه على عتبة الموت والحياة ويحتاج إلى وقت لترويض الخوف والصدمة والانقلاب، وللتأقلم مع فقدان معالم الجسد والجنس. منعطف قد يعني للذين كانوا يعانون في حياتهم القبلية من التنافر وعدم التفاهم، لحظة الفراق والانفصال، والمسمار الأخير في نعش الزواج . وتعني للذين يرتبطون بقوة مع بعضهم البعض محطة للتصالح مع الواقع كما هو، والتصرف بإيجابية والاستمرار في سقي شجرة الحب والتفاهم والحميمية المتبادلة. إن مرور السرطان على الجسد يترك فيه آثارا تصعب توريتها كالندوب ومخلفات البتر وقد يضاف إليه بعض الأعضاء الاصطناعية التعويضية (كالأطراف والأثداء) بالإضافة إلى حالات الإرهاق والتعب المزمنين، وجفاف الجلد وسقوط الشعر مما يعني فقدان الكثير من الجاذبية والإغراء للآخر. ويختلف التأثير على الفرد من سرطان لآخر ومن عضو لآخر، فلكل عضو رمزية جنسية متميزة، فسرطان الغدد اللمفاوية والرئة أو الكتف ليس بنفس الإعاقة الجنسية كسرطان الثدي والرحم والمهبل أو الخصية والقضيب. يصبح بعد ذلك التعامل مع حواء جديدة وآدم جديد، محفوفا بالمشاكل والمخاوف. وتنبع هذه الصعوبات من القلق الناتج عن: - الخوف من نظرة الآخر. -الخوف من الازدراء والنفور. -الخوف من العدوى (عندما يكون السرطان في الأعضاء الجنسية) للتداخل مع الأمراض الجنسية. -آلام مصاحبة للمداعبات اليدوية. -الخوف من العقم وفقدان القدرة على إنجاب الخلف. هذا الخوف الأخير لابد لتفاديه من إيجاد بنوك للبويضات وللحيوانات المنوية التي تؤخذ من المريض قبل بداية العلاج لاستعمالها بعد الشفاء. تدخل الطبيب الجنساني يعتمد على تقنيتين، الأولى هي إعادة برمجة طرق التواصل بين الزوجين: -استعمال كلمات تعمل على تقوية كل ما هو إيجابي في الشخص، كلمات لطيفة دافئة ومهدئة. -إثبات الشخصية، وتحسين المظهر الخارجي. - الإكثار من الجمل المثيرة واللذيذة: «أحب ألوان ملابسك الداخلية» «أنت أيضا لونك الأسمر بالأشعة يزيدك جمالا» «يكفيني أن تداعبني وتلمسني» «قبلني» «هذا رائع، أنا وأنت لوحدنا». - تشجيع الملامسات الحميمية المتبادلة بالاستعانة أحيانا بمراهم مرطبة وزيوت طيارة وعطور وموسيقى هادئة. إعادة الروح للجنس بين زوجين أصيب أحدهما بالسرطان كفيل لوحده بتقوية ونجاعة العلاج وبث روح التفاؤل في حياة تمر بمنعطف خطير.