اجتياز عتبة مكتبة الاستاذ محمد العربي العسري بشارع الزرقطوني نقلة بين عالمين متباعدين رغم التجاور الظاهر. عالمان لكل منهما زمنه الخاص وإيقاعه المستقل ولغته المختلفة. عالم السوق الصاخب المزدحم، حيث كل شيء مسعر، وكل معروض قابل للأخذ والرد والمفاصلة، وحيث القيمة لا تعني أكثر من رقم. وآخر مسكون بالثقافة والأدب، للفكر فيه صخب صامت وألق مستتر لا يتجلى لأي عين، حيث القيمة روح لا تدركها الأرقام. كأن تلك المكتبة، على ضيق مساحتها، أرض رباط للمعنى ،و ثغر ثقافي مازال يقاوم باستماتة قيم التسلع الزاحفة التي تغتال كل جميل في مدينة القصر الكبير وتمسخها سوقا كبيرا مستباحا. أول ما يسترعى الانتباه آن دخول المكتبة، هو الصور التي تحتفي بها الجدران. صور لعلماء وأدباء وفنانين سقطوا سهوا من ذاكرتنا المعتلة.. أو ربما أسقطوا. صور بالأبيض والأسود، طالها اصفرار قدرت أنه ناجم عن هلع أصحابها الراحلين وهم يطالعون حاضر مدينتهم. وحين يمعن الزائر النظر في الكتب المتراصة بانتظام على رفوف يناوشها الغبار، تفاجئه عناوين في الفكر وعلوم التراث وصنوف الأدب لم يعد يجدها بمكتبات أخرى فيها متسع لكل شيء، من الأبراج وقراءة الطالع ورسائل العشاق إلى فوائد البصل، لكنها تضيق بالثقافة الجادة التي تكسد وتبور للأسف في مجتمعات لا تقرأ. دخلت ورفيقي عالم الأستاذ العسري حاملين بعض التساؤلات، والكثير من التهيب الذي سرعان من أذابه دفء الاستقبال، فوجدناه عاكفا على إعداد ثلاثية عن أدباء وأعلام القصر الكبير (صدر جزؤها الأول تحت عنوان "أقلام وأعلام من القصر الكبير في العصر الحديث ملامح من حياة ومقاطع من نصوص" ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي). واهتمام الأستاذ بالتأليف حول تاريخ ورجالات القصر الكبير ليس وليد الصدفة، فالتاريخ الكوني ،كما يشرح الأستاذ العسري، هو نتاج تراكم التاريخ المحلي لكل أمة . وهو إذ يولي الاهتمام لتاريخ المدينة ،يوثق ويدون مع آخرين مساهمتها في صناعة التاريخ عبر الانطلاق من الذاتي للوصول إلى ما هو كوني. لذا حين عرض علينا باهتمام منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، بدا على قسمات وجهه، إلى جانب الفخر، بعض الخوف من أن يخلف على المدينة خلف لا يرى فيها أكثر من كومة غبار. ونحن نغادر، كنت متيقنا أنه لو جاز لنا الحديث عن روح لمدينة القصر الكبير، فجزء من هذه الروح ملازم بلا شك لمكتبة الأستاذ العسري، فلو أحسن الزائر الإنصات، قد يشي له الصمت بلحن منسي لعبد السلام عامر أو ببيت قصيد مفقود من أوراق محمد الخمار الكنوني. وكنت مقتنعا أيضا أن مكتبة الأستاذ العسري شهادة إدانة حية في حقنا جميعا، فالأعداد الناذرة المحفوظة بالمكتبة من مجلة الجذوة التي كانت تصدر بالقصر الكبير خلال الستينات من القرن الماضي، تدين بلا ريب الورق الذي يباع بالمدينة حاليا مما يسمونه تعسفا" جرائد محلية"، وصور مسرحية شهرزاد التي قدمها بالمدينة ألمع نجوم المسرح المصري أواخر الخمسينات تدين من باع مسرح المدينة بدراهم معدودة.. وكانوا فيه من الزاهدين. خالد الموذن مدونة إعادة نظر