الساعة الآن العاشرة ليلا.. أحسست بارتخاء في أعضائي ،ضوء الشمعة يتراقص على أنغام نباح كلاب متقطع، وقع حوافر بعض الدواب يدخل على الخط بدون استئذان، مددت رجلي تحت الفراش ، شعرت برعشة في أوصالي لبرودة الجو. كان صوت أم كلثوم يخترق صمت الغرفة ... الآلات ترن وتطن...زمن مضى أراه يينع كالورود الجميلة ... أغلقت عيني ببطء ،انتصبت صورة المدير فجأة تردد: اسمع يا ولدي، ستذهب الى قرية أيْت بوعرْبي ،ستدرس في غرفة قديمة ريثما يبنون المدرسة قريبا .. أبشر! سيبنون لك السكن أيضا . مجرد وعود تدحرجت مع الأيام .. ووعودهم تطول .. وقد طالت سنوات . ثم انتابني ضحك خفيف وأنا مغمض العينين .. لقد تذكرت اليوم الأول حيث اصطف التلاميذ أمام القسم ، أقصد المبنى القديم ، ثم أمرتهم : " دخْلوا" فتسمّروا في مكانهم . أعدت الأمر وأنا أنظر إلى الذي في الأمام ، فردّد عليّ " دخْلوا" لم أتمالك نفسي من الإغراق في الضحك.. فتحت عيني ببطء ، كانت " فكروني" تنسج خيوطا شفافة من اللحن الجميل ، وضوء الشمعة يجاهد جيوش الليل البهيم ،فجأة سمعت خشخشة ... رفعت رأسي قليلا .. أصخت السمع .. خفضت صوت الجهاز لأتأكد لكن لاشيء ! عدت فوضعت رأسي وشرعت أحرك رأسي تجاوبا مع النغم .. هنا تحركت آنية ، خشخشة أخرى ؟ كأن حجرة ألقيت على الماء الراكد فتموجت هواجسي تتراكل في الصدر. قمت بحذر ..اتجهت نحو مصدر الخشخشة ،المصباح اليدوي بيد و فردة حذاء بأخرى ! تجمدت قرب المصدر، ارتفعت تصفيقات الجمهور ! ضحكت ، تساءلت على من يصفقون ؟ عليّ أنا ؟ أم على هذا الملعون الذي يبدو أنه شعر بحضوري فاختفى ؟! آه ! لعله يكون تسلل من تحت الباب الخشبي ! ربما هو الآن في فناء الدار وسط أعواد الحطب يضحك عليّ .. وجوه الجدران ملأى بالتجاعيد وتجاويف السقف الخشبي تؤوي عناكب تتربص بالحشرات الطائرة ،فتحة أسفل الباب المهترئ تدخل هواء باردا يرعش الأبدان ،أوراق وجذاذات تشهد على فوضى عارمة تحتل المكان ،بجانبها كتب علاها الغبار... تدكرت الجامعة والمكتبات ، المدينة المفعمة بعبق الحياة ...ماهذا يا أستاذ؟ جفت الأقلام وطويت الصحف ...كنت ممددا على السرير لا أحرك ساكنا كالميت، أغمصت عيني في استرخاء مطلق .. أطلقت زفرة، تأففت.. تأملت الحظ الذي رماني كسهم إلى هذه الجبال ..البيوت مبنية على طريقة " التابوت " ، لا ماء ولا كهرباء ولا طريق معبدة.. شعرت أني رقم ضائع في هذا الوجود ،إذا أردت قضاء حاجتك فما عليك إلا الانزواء في حفرة ما أو وراء شجرة ، تعري أسفل جسمك وتقارع البرد القارس بصبر وأناة .... ناس بسطاء تُسمع ضحكاتهم من بعيد .. أهازيجهم تنطلق من الحقول مرفرفة بقوة كجناح نسر في السماء .. يعملون ولا يملون كالنهر في جريانه..ناس أبرياء يعيشون حياتهم الصعبة بكل رضى ،يقولون الطبيعة جميلة والجو عليل.. أحسست بقهقهة تكاد تنطلق من الأعماق وتظل تسير كما الصدى في الجبال .. إذ ما قيمة هذا وسط الحرمان والوحدانية القاتلة ؟ تاج بلا رأس أم رأس بلا تاج ! قطعت حبل أفكاري كلاب تنبح بقوة من جديد في الخارج، وأم كلثوم في سكون الليل تذكرني بذكرياتي ، بأحلامي ،بح صوتي من تردادي للحروف والكلمات :ب ببْر ،با باب أستاذ؟ موحا ذايتصّا استاذ ريخ أذيخْ أمانْ.. ثم .. ارتفع صوت خشخشة ثانية ...همست .. تالله لأجاهدنّ فيك الليلة ! حتى أنت يا .. خرجت وأغلقت باب الغرفة بقوة حتى سمع دويه بين الجدران ..أنفاس حارة وشهيق يبلغ آذنيه من وراء الحيطان ، أغلق عينيه الواهيتين ، منذ أيام فقط كان عند الطبيب المختص يشكو ضعف البصر ، يبدو أن العالم الخارجي يمقته مثل فريدة ..صوتها لا يزال يجلجل في رأسه كالرعد المفاجئ - اسمع !عليها بدار العجزة ..أريد العيش بهدوء في بيتي ..صداعْ الراسْ ماعندي ماندير بهْ. - إنها أمي أيتها المتعلمة ، هي ال.. - ليست أمك ،أجابت صارخة، حتى أمي لن أقبل العيش معها تحت سقف واحد ،الدنيا تغيرت يا متحضر .. مات أبوك وورثنا عنه هذا الهم .. انتفخت أوداجه وجحظ بعينيه.. ازدرد ريقه .. كالعادة لم يجد كلمات مسعفة في موقفه الحرج هذا .أطلقت حنان صرخة الخوف من الجو المشحون ..مد يده المضطربة يربت على كتفها مهدئا، تذكر أقوال علماء الاجتماع والنفس وكل علماء الدين عن التربية ..ياما شرح للتلاميذ فوائد التربية السليمة .. هيا أظهر شطارتك يارجل ! همس لنفسه ، كاد يضحك من هول الفارق بين النظرية والواقع ، بدت له كأمواج عاتية تضرب صخورا قوية.. تناهى إلى سمعه كلام المرأة وهي تهمهم ..صرير باب ووقع أقدام تبتعد وتبتعد..استلقى على ظهره كمن يتمدد في قبر ،اسودت الدنيا في عينيه وهاجت المشاعر كسحاب تعبث به يد رياح شديدة ..كمن تذكر شيئا غاليا ، هب قافزا من مكانه وذهب إلى المكتبة، فتح الدرج بالمفتاح وأخرجه من مكان أمين هناك ثم جلس يتفرج.هاهو ذا عار يجري غير مبال بأحد ،مط شفتيه يطلب ابتسامة غارقة في الهم.. احتضنته وقبلته كثيرا ..ضمته الى صدرها ضمات تقطر حنانا، اقتحمت جلسته الحميمية كلماتها الهادرة كالعاصفة - اسمعْ أولد الناسْ ! إما هي وإما يانا .. فتح عينيه أكثر وقد طفرت منهما دمعة حائرة..انتبه الى صورته وقد كبر قليلا.. كان يحمل محفظة على ظهره الصغير، كاد ينسى واقعه المر ويضحك لما تصور أنه يشبه سلحفاة واقفة ، دخل عليه من نافذة الذاكرة - أنا عييتْ من ديك الشارْفه.. ماقابلتْ راسي حتى نقابلها هي.. تزحزح كمن يتجنب سهما قاتلا، عاد وركز على الصورة التي كادت تتبخر وتختفي من حقل إدراكه، رآها تحمل عنه المحفظة وهي لا تمل قولها المدوي مرة أخرى النظر إليه.. كانت تقول في فرحة مسكرة : أجي ألكبيده ديالي ..ألغزال ديالي.. - بغيت المّك ؟ ماڭلنا والو .. بالحق عْطيني بْراتي .الحاصولْ بيني وبينك القاضي . كعين تفجرت مياهها فجأة، أحس بالدم يجري حارا في عروق جسده..ماعساك ستفعل يا أستاذ ؟ سأل نفسه حائرا.. والأمّورة الصغيرة حنان ؟ هل يمكن أن تتربى في عش آخر بعيد عنك ؟ أنسيت ابتساماتها ؟ كلماتها الحلوة المضحكة ؟ لعبها بين يديك ؟ وأنت ؟ ألم تلق الرعاية سنوات وسنوات على يديها ؟ مذ جاءت الى المنزل اعتبرتك ولدها الوحيد في حياتها ..فهل سترميها كفردة حذاء بالية ؟ أرأيت ؟ ياما كنت تسمع عن مثل هذه الحكايات فتطردها من دماغك كما تطرد ذبابة من على أنفك ! كنت تسمع عن البحر وها أنت الآن بين أمواجه ..وجد نفسه كمن يتعرض لصعقات كهربائية ،سؤال واحد احتل عقله الخائر : لم كانت تصمت ولا تقول له شيئا حتى الآن ؟ لم تخفي الجمر تحت الرماد ؟ قطع حبل أفكاره دقات خفيفة على الباب، لعلها عادت من الحمام ، همس وهو ينهض بصعوبة ، استقبلته بابتسامة حنونة كالعادة .. - بالصحّه الحمّامْ ، قال وهو يفسح لها المجال للدخول. - الله يعطيك الصحّه .. تفقدت المنزل بنظرات فاحصة ..جلست وهي تتنهد بعمق ، ثم أشارت إليه أن اقترب .تذكر السؤال الاخير، اقترب وهو يحثها بنظرات مشجعة ، على الأقل يجب أن يعرف رأي الطرف الآخر. بادرته بالقول : - اسمع ، منذ مدة وأنا غير مرتاحة في منزلي هذا .. وأعتقد أنه ،حفاظا على ماء الوجه ، على الضيف أن يرحل ويبحث له عن مأوى آخر.. أ. زايد التجاني / بومية