* المجتمع في حاجة إلى الفلسفة لا يمكن قراءة الواقع بشكل معزول عن الفلسفة، لأن النفاذ إلى عمق هذا الواقع، وكشف أشكال الغرابة، والانحدار، والبؤس فيه، يتطلب استنطاقا عميقا لقضايا المجتمع، وللبنية المفاهيمية التي تؤثث تصورات الذات في علاقتها باليومي، وهو ما يجعل مهمة الفلسفة كبيرة، لما يتضمنه الواقع الإنساني من التباسات ومفارقات، تجعل حظوظ الانعتاق من "الكارثة" ضعيفة بسبب سيرورة التدمير التي "ارتدت بالإنسان إلى مرحلة الهمجية" . أمام هذه التحديات هل يجوز للفلسفة أن تغيب؟ إن السؤال السابق يحيل على مسألة القيمة؛ قيمة الفلسفة داخل المجتمع، لأن تفعيل دور التفكير الفلسفي، وتأكيد تلازميته مع الواقع المجتمعي، يترجمان عبق الفلسفة المستمدة من روح الواقع. والحكمة الحقيقية في الفلسفة هي في إنتاج الحكمة من أجل مواجهة التحديات وتشخيص أسباب الأزمة في المجتمع، فهي مصححة للشروط التي قام عليها العقل خلال مرحلة من مراحل التاريخ، وهذا جد مهم لأن الفلسفة "تطمئن" من موقع الانتصار للإنسان وكينونته، بمعنى أنه لا يمكن تصورها معزولة عن واقع الناس وتفاعلاتهم الحياتية. إن فهم درجة ارتباط الفلسفة بالمجتمع، يبرز من خلال تتبع مستوى تأثير هذا النمط من التفكير في تفاصيل اليومي الإنساني، وخصوصا في ما يتعلق بالقضايا الكبرى التي باتت تشغل بال الأفراد مثل: التربية، والعدالة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، والعلاقات الإنسانية.. الخ، بذلك تصبح وظيفة التفكير الفلسفي هي توجيه الفرد والدفاع عنه، لأن الإنسان هو الكلمة النهائية لكل فلسفة. إن انطباعات الناس تصور الفيلسوف ملحدا، وتنعت الفلسفة بالمروق عن الدين، وتخرج مواضيعها من دائرة الانشغال اليومي، والأكثر من ذلك أن العديد من الأمهات والآباء يتخوفون من تسرب ثقافة "الانقلاب" على الله إلى نفوس المتعلمين من أبنائهم وبناتهم، ما يعني أن فهم حقيقة العلاقة بين الفلسفة والدين، وتوضيح فاعلية الفكر الفلسفي في الخطاب الديني، بالإضافة إلى تحديد التقاطعات بين خطاب "الله" وما ينادي به الفلاسفة ..إلخ، إشكالات تحتاج لمزيد من الإيضاح والبيان، لأن التأويل السطحي يُغيب الفهم العميق للمعاني الحقيقية للفلسفة، تماما كما هو الشأن بالنسبة لكيفية التعاطي مع النصوص الدينية، حيث تغيب الحقيقة في "زحام" التأويلات المخالفة لمقاصد الشرع وعبره. على هذا الأساس يكون تحييد الفلسفة وعزلها عن المجتمع "مناورة" فاشلة يسعى من خلالها أعداء التنوير إلى تعطيل دور العقل، بل تضليل الجوهر الفاعل والعميق للتفكير الفلسفي، خصوصا على مستوى علاقة الفلسفة بباقي مكونات الثقافة المجتمعية، وبالتحديد علاقتها بالمكون الديني، على اعتبار أن الانتصار للفلسفة يحمي تلقائيا عمق الممارسة الدينية التي تنتقل من مستوى السطحية إلى مستوى السلوك المُعَقْلن. هكذا يتحقق التصالح مع الفلسفة، ويصير التفكير الفلسفي ممارسة شعبية تعكس قلق الناس وانشغالاتهم، وتحررهم من "مألوفية" اليومي ورتابته، وتزرع فيهم حس الاختلاف وروح المسؤولية، وتغذي لديهم الشعور بالاستقلالية، وتربي فيهم ثقافة الإنسانية التي مزقتها قوى التعصب، وتحقق لهم شروط فهم الذات في علاقتها بالآخر، وتمنح الجمال دلالا والإبداع روحا، والأكثر من هذا وذاك أنها تمكن من قراءة الواقع ومساءلة ما يبدو بديهيات فيه، وهذه العملية تضمن الانخراط الفعلي ضمن السياقات التفاعلية المتعددة في المجتمع وديناميته . *أستاذ الفلسفة ومراسل لجريدة "أخبار اليوم".