تقديم : التواصل حوار حضاري يؤدي إلى علاقات مادية و معرفية بين الأفراد و الجماعات ، وغالبا ما تكون هذه العلاقات مبنية على الأخذ و العطاء و الاحترام المتبادل بين الأطراف .إنه ممارسة ضرورية لقطاعات متعددة منها قطاع التربية و التكوين . · فما معنى التواصل ؟ · و ما هي أهمية التواصل داخل الوسط المدرسي ؟ · وما هي بعض معيقات التواصل التربوي داخل المدرسة المغربية ؟ هذه مجموعة من الأسئلة الحارقة التي تؤرق بال كل مهتم بقضايا التربية و التكوين ببلادنا ، والإجابة عنها لا تحتاج إلى استمارات و أرقام لتبيان ذلك إذ بمجرد استطلاع أو أخذ آراء الممارسين البيداغوجيين نستشف أن هذا التواصل تفتقده معظم مؤسستنا التربوية، و لا شك أن القدرة على التواصل أمر مطلوب لدا كل الفاعلين التربويين لأجل الانخراط في دعم جهود المدرسة ، و حشد الهمم و الإقناع لفض كل النزاعات و الصراعات التي أصبحت مؤسستنا التعليمية مسرحا لها في السنوات الأخيرة (1) أولا : التأصيل المفاهيمي للتواصل : لغة : جاء في " لسان العرب " اتصل الشيء بالشيء ، أي أقام معه صلة ، و يفيد هذا المعنى أن المبادرة تأتي من جانب واحد هو الفاعل . وتواصل ، يتواصل ، بمعنى المشاركة ، مادام الفاعل أكثر من فرد واحد ، و مادامت المبادرة تأتي من الطرفين معا ، فالتواصل حوار يتبادل فيه الطرفان الحديث في دورة الكلام ، وهناك أنماط عديدة من التواصل ( تواصل غير لفظي/ غير لغوي ، تواصل حركات و هيئات الجسم ....) . اصطلاحا : التواصل التربوي/ التواصل البيداغوجي : هو كل أشكال و سيرورة و مظاهر العلاقة التواصلية سواء بين مدرس و تلميذ أو بين مكونات الوسط المدرسي ، و يهدف إلى تبادل أو تبليغ ونقل الخبرات و المعارف و التجارب و المواقف ، مثلما يهدف إلى التأثير على سلوك المتلقي . و لفعل التواصل البيداغوجي مجموعة من المكونات الأساس : (2) ü هناك تفاعلات و علاقات متبادلة بين مدرس و تلاميذ، أو بين التلاميذ أنفسهم . ü هناك سياق للتواصل البيداغوجي في الزمان و المكان و وسائل لفظية و غير لفظية . ü قد تكون وظيفة التواصل البيداغوجي التبادل أو التبليغ أو التأثير .. التواصل التربوي إذن ، حوار يؤدي إلى قيام علاقات تربوية حضارية بين الأستاذ (ة) والتلاميذ ، و بين التلاميذ أنفسهم ، ويجب أن تكون العلاقة أستاذ (ة) / تلميذ(ة) مبنية على الأخذ و العطاء والاحترام المتبادل بين الطرفين. و يحيل التواصل كما أكد على ذلك " هابرماس" على رهان إنساني عميق ، يتمثل في تشييد مجتمع ينبني على قبول الآخر ، أما عدم التواصل فيؤدي إلى ضعف التفاعل و الحوار و توتر العلاقات داخل الوسط التربوي(3) ثانيا : تدني مستوى التواصل بالمدرسة : من بين المشاكل التي تنضاف إلى أحزان المدرسة المغربية : فتور أو برودة التواصل التربوي جراء ظهور مجموعة من التوترات و الاضطرابات بالجسم التعليمي خاصة تلك التي أرخت بظلالها على آلية الأداء و فعالية الإنتاج في المواسم الدراسية الأخيرة و المتمثلة في ظهور آفات من قبيل قتل أستاذ لزميله (حادثة كلميم) و محاولة ذبح تلميذ لأستاذه (حادثة سلا) واعتداء تلميذ على أستاذه (حادثة وجدة) و هلم جرا أو شرا إن شئتم الدقة !! إن هذه المأساة التي أصبحت تطفو على واقعنا التربوي تقتضي إيجاد حاول مناسبة لها ، مثل جعل التواصل مادة دراسية و سلوكا استراتجيا و ثقافة مجتمعية ، اعتبارا لكون التواصل التربوي مهمة أساسية للعاملين في المجال التربوي وعملية ضرورية وهامة لكل عمليات التوافق و الفهم التي يتوجب على التربويين القيام بها بهدف الوصول على الأهداف المنشودة للمؤسسة التربوية (4) و من جملة معيقات التواصل و للأسف الشديد وجود إشكالية لدى معظمنا في تعامله مع الرأي الذي يخالفه فما برحنا نعتقد أن من يخلفنا الرأي فكأنما يعلن الحرب على ذواتنا و يتهم عقولنا بعدم الإدراك ، و لقد قيل قديما : " كن مختلفا " أو " اختلف مع من تحب " لذا ينبغي عدم الحجر على رأي أحد أو مصادرة حقه في طرح و جهة نظره ، فالنقاش و الجدل ينبغي أن يكون بالتي هي أحسن (5) فالنوع الإنساني مضطر إلى التعايش و التآلف والاجتماع في إكمال المعيشة ، و إتمام و انتظام البنيان ، لأن الحياة الإنسانية في جميع صورها لا تقوم إلا بالتعاون و لا تستقيم إلا بالنظام ، و من الهام ترك الغرور و الاستبداد و إقصاء من قبلك و من بعدك ، و التغيير ممكن ، لكن بالإخلاص والتشاور و التفاؤل و الحب (6) يعتقد الكثير من المهتمين بالتربية بأن مشاكل المدرسة المغربية مرتبطة بالأساس بفتور التواصل داخل أسوارها ، وذلك راجع بالأساس إلى تغيير المنظومة القيمية بمجتمعنا حيث تراجعت بعض القيم الأصيلة ( حشومة ، الدم ، الخاواة، الجوار ....) و ظهرت محلها بعض القيم الدخلية : ( الفردانية الوصولية/الانتهازية ، الاستغلال ، الإقصاء.....). إذن كيف يمكن لمنظومة التربية و التكوين في مغرب اليوم أن تفعل آليات التواصل و التربية بالمدرسة المغربية ؟ خاصة و أن الأنظمة التربوية الحداثية ، و على الرغم من تعدد تصوراتها ، لا تسعى سوى إلى نسج علاقة الإنسان بذاته و بالآخرين و بالعالم من أجل تحقيق مجتمع متوازن (7) ويعتقد بعض المهتمين أنه ينبغي وضع حد للهراء و النفايات الكلامية داخل المؤسسات ، تحطيما لهذا الشبح ( الهراء) الذي حرمنا من ثورة فكرية و ثقافية كما قال " فيكتور هيكو". هذا و من عوائق التواصل ، بمؤسساتنا التربوية كذلك ، شرعنة الصراع الإيديولوجي و الجدال العقيم و المقيت الذي لا يليق برجال و نساء التربية ، لأن الارتقاء في سلم المواطنة ليس حكرا على أحد ، كما لا تليق بهم كذلك أساليب تكوين الأحلاف وفبركة ملفات ضد من يخالف رأي " القطيع " كما لا تليق بهم بعض الإنزالات التي تحاك ضد الرأي الحر ، وكذا ما يشبه المحاكمات الشعبية ! إن التواصل ضاع في الزمن الذي ضاعت فيه القيم النبيلة وانهارت فيه أسهم الأخلاق ، فاسحة المجال للانتهازية و الوصولية المفترسة و المتوحشة ، وتاركة الأبواب مفتوحة لمن يريدون تصفية خصوم وهميين بالقمع و القذف و التخويف و الردع ، فهل هذه الطرق تساهم في تنمية الحوار المسؤول الذي يسلك كآلية مثالية لتدبير الاختلافات و ليس الخلافات ، خاصة و أن المجتمعات المستقبلية ستكون وليدة التواصل و نظم الاتصال ؟ أم يبدو أن التوجه التربوي القيمي الجديد الذي تعتمده المناهج التربوية بالمدرسة المغربية ، على الرغم من تنوعه و تميزه بطابعه المثالي ، يبقى قيما نظرية و طوباوية ليس إلا ، لأنه بعيد عن التمثل الواقعي و الأجرأة الميدانية ، بسبب تأثر المدرسة المغربية بآفات مجتمعها المتردي على جميع الأصعدة ؟ ! (8) على أية حال ، هذه بعض معيقات التواصل التربوي بمؤسستنا التعليمية ، نضيف إليها أسباب أخرى توجد في قلب غياب التواصل بهذه المؤسسات منها العنف ، الذي بلغ 203 حالة عنف مدرسي برسم سنة 2012-2013 حسب التقرير الأخير لوزارة التربية الوطنية : (جريدة الإتحاد الاشتراكي ، العدد : 10495 ، 7-8/9-2013 الصفحة الأخيرة ) فهذه المعيقات لا شك أنها ترتبط بتراجع المكانة الاعتبارية و القيمية و الرمزية التي تحظى بها المدرسة في وجدان و فئات المجتمع . ثالثا : حلول و بدائل من أجل تواصل أمثل : يعج كل مجتمع بمطارحات فكرية و نقاشات مستفيضة مبنية على الأخذ و العطاء و ليس على الإملاء و الإكراه . و يسعى مجتمعنا بدوره إلى بناء ميثاق مجتمعي اعتمادا على أشكال التعاقد الممكنة ( بين الفرد و مجتمعه) بين المواطن و الدولة، بين الجماعة و المجتمع ( على حد تعبير " فيرناند طونيز" ، وتتجلى الأطر الفلسفية و المجتمعية التي تتأسس عليها بعض المواثيق المجتمعية . أو المشاريع المجتمعية في : (9) أ. الحرية : فلا حرية بدون أفراد أقوياء بالحرية. ب. المساواة : و لا مساواة بدون مواطنين متخلصين من جبروت التعسف و الإهانة. ج. الديمقراطية : لا ديمقراطية بدون أفراد متخلصين من الاستغلال. و يجب أن تمتد هذه التعاقدات إلى المؤسسات التربوية و الفصول الدراسية ، إضافة إلى ضرورة تفعيل المقاربة التواصلية في مناهجنا و مقرراتنا الدراسية و حياتنا ككل ، و القطع مع كل أشكال إقحام المزايدات السياسوية و الحزبية و النقابية الضيقة في مناقشة مشاكل التعليم سواء على مستوى النقاش العام أو داخل أسوار المؤسسات التربوية ، كما ينبغي التخلي عن الكولسة المغرضة التي تعني ؛ توجيه آفاق اللقاءات و التجمعات ، بالتحضير القبلي الخفي للنتائج التي يمكن أن تؤول إليها محطات التشاور ، لأن هذه الأساليب مخالفة للآليات الديمقراطية ، و لاعتبار الكولسة سلوكا يتنافى مع ممارسة التداول على التدبير : (ذ.سالم تالحوت ، جريدة المساء ، العدد : 1888 ، 8/10/2012 ص " الرأي ") زيادة على أهمية التخلي عن كل أشكال الإذلال و الإهانة المفرطين للآخر ، فتمريغ كرامة الإنسان في الوحل ببعض الدول العربية كانت سببا في "إشعال فتيل الثورات العربية " (10) ، التي ينبغي أخذ العبر منها لخلق نقاش هادئ و سلمي بين كل مكونات مجتمعنا المغربي الطامح إلى خلق طفرة إيجابية في كل المجالات ، و لعل المدرسة هي أساس هذا التغيير الإيجابي ؛ القائم على التواصل الفعال و الإدراك الواعي بأهمية احترام قواعد هذا التواصل ، هو الكفيل بزرع نفس جديد في مدارسنا لأن " الإدراك هو بداية التغيير ، و التغيير هو بداية النمو " كما قال الدكتور ابراهيم الفقي " فامتلاك الكفاية التواصلية شبيه بامتلاك المفتاح الذهبي ، الذي يمكن لصاحبه أن يلج به إلى عوالم السلوك المدني الحسن و القويم ، و التربية على التواصل ؛ التي جعلها المربي الفرنسي " سيليستيان فريني" من أبرز مشاريعه التربوية تقود الأفراد إلى استثمار التواصل في واقعهم المعيش و تنمي لديهم روح المبادرة . أما مشروع مدرسة ( سامير هيل ) و رائدها " إلكسندر نايل " فيعتبر التواصل إستراتيجية هامة لانفتاح المدرسة على محيطها الخارجي ( 11). إذن ، ليست مشاكل المدرسة المغربية اليوم هي الجودة و لا الهدر المدرسي....، إنما هناك مشاكل أخرى كانعدام التواصل و الجدال المقيت و العقيم بين فرقائها ، و هذا مرتبط بحركية المجتمع ككل ، مما يستلزم تضافر جهود الجميع ، لإصلاح منظومتنا التربوية و إعادة بنائها على أسس وطنية ، وفي منأى عن الاعتبارات غير التربوية. خاتمة : تعتبر المدرسة مجالا حقيقيا لترسيخ القيم الأخلاقية و قيم المواطنة الإيجابية و حقوق الإنسان وممارسة الديمقراطية (12) و لا شك أن التواصل يرسخ هذه القيم إلى جانب قيم إيجابية أخرى قمينة بتهيئ أجواء الأمن والآمان بمؤسساتنا التربوية ، بدل جعلها مكانا للعنف و الصراع بكل تلاوينهما . و هذا ما نبه إليه الخطاب الملكي السامي ل20/08/2013 حيث أكد على عدم جعل المؤسسات التربوية فضاء للجدل العقيم و لتصفية الحسابات و الصراعات السياسوية .. التي تساهم في تأزيم و تعقيد أوضاع التعليم ببلادنا بدل التفكير في إيجاد حلول ناجعة له. فمحاكمة الرأي المختلف ، أضحت سلاحا مرفوعا في وجه البعض بمؤسساتنا التربوية ، و هذا يتنافى مع ثقافة الاختلاف و التعدد و يضرب في الصميم قيم التسامح و الحوار، التي تعتبر بحق من ركائز التواصل التي تؤكد عليه الديانات السماوية و المواثيق العالمية ، وهذا ما ذهب إليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مادته 19 " لكل إنسان الحق في اعتناق آراء دون مضايقة ". المراجع : (1) ذ.حسن لحكيم ( الدور المحوري للمدير (ة) و متطلبات تجديد التكوين) كتيب المرشد التضامني 2012 -2013 ص43 (2) أ.عبد الكريم غريب( المنهل التربوي، الجزء الأول A-H) ، منشورات عالم التربية ، مطبعة النجاح الجديدة-الدارالبيضاء، الطبعة 1 (2006) ص161-162 (3) د. العربي اسليماني ( المعين في التربية) ، المطبعة و الورقة الوطنية-مراكش ، الطبعة 6 ( يوليوز2013) ص 197-198 (4) د. محمد يوسف أبو ملوح ( مهارات التواصل ) جريدة المنعطف ، العدد3399 ( الأربعاء 8 أبريل 2009 ص4) (5) ذ.كريم الشاذلي ( أفكار صغيرة لحياة كبيرة ) دار اليقين للنشر و التوزيع-المنصورة مصر ، الطبعة الثانية 2011ص 160-161 (6) د. فيصل يوسف العلي ( افتتاحية : القيادة بالفطرة ) مجلة الوعي الإسلاميالكويت – العدد 578 ( غشت-شتنبر 2013) ص3 (7) المملكة المغربية وزارة التربية الوطنية و التعليم العالي مأخوذ من ( موضوع حول قضايا التربية و التكوين) مباراة الدخول إلى مسالك التكوين لمراكز تكوين مفتشي التعليم ( جميع المسالك) دورة8-9 يوليوز2010 (8) د.جميل حمداوي ( منومة القيم في مقررات التعليم الثانوي التأهيلي بالمغرب) " مجلة علوم التربية " العدد :47(مارس2011) ص52 (9) د.يوسف صديق ( مطارحات من أجل ميثاق مجتمعي )" مجلة علوم التربية " العدد:54 ( يناير 2013) 64-47 (10) د.محمد أندلسي ( نحو إعادة استشكال فلسفي لمفهوم الحرية في ضوء " الثورات العربية") " مجلة الأزمنة الحديثة" العدد5 (صيف 2012) ص102 (11) ذ.حسن وبا ( أهمية التواصل في زمن جيل " مدرسة النجاح") " جريدة المساء" العدد965( 28/10/2009 ) ص:6 (12) وزارة التربية الوطنية و التعليم العالي و تكوين الأطر و البحث العلمي ، 2009 ، الدليل البيداغوجي للتعليم الابتدائي ، مطبعة المعارف الجديدة ، الرباط ص :55