أعتقد أن المغرب من بين الدول القلائل التي يشكل فيها الإعلام السمعي والبصري قطارا فائق السرعة لنقل المواطنين نحو فيافي السخافة والضحالة والإسفاف ...لسنا بحاجة إلى بذل جهد في البحث عن الحجج القاطعة والأمثلة الدالة لأن أغلب المغرر بهم من المشاهدين لن يكون بمقدورهم تعزيز هذا الموقف أو دحضه بسبب تكلس أدمغتهم وترهل أذواقهم ...وأعتذر عن هذا القصف المباشر لهؤلاء الضحايا من المشاهدين ،بل لا أجد حرجا في التماس العذر لهم لكون الدولة ،وهي المتحكمة في الجهاز الإعلامي ،لاتتوفر على مايكفي من الإرادة لتنوير عقول المشاهدين وصقل أذواقهم وإنماء قدراتهم التحليلية والنقدية ...ورب قائل سينتفض محتجا بأن شاشاتنا ومذياعاتنا لا تخلو من بعض الفلتات المشرقة سواء في التوعية الاجتماعية أو الأسرية أو الدينية ...وأنا سأتفهم انتفاضته المتعجلة الناتجة عن غيرته البريئة على المنتج الإعلامي الوطني ،إلا أنني لن أجاريه في دفاعه عن السخافة المستشرية في كل أوصال إعلامنا العليل ، بدليل أننا كلما رفعنا من عدد القنوات والإذاعات ،ازداد غباؤنا وسطحيتنا وخواؤنا الفكري والجمالي والروحي ...هل الكثرة العددية في القنوات والإذاعات كافية لتشكل مقياسا نحدد به درجة الجودة في الأداء الإعلامي ؟؟؟ لا يا ضحايا الآلة الإعلامية المسننة والمسمومة ،فالعبرة إنما تكون بالأثر الإيجابي والناجع للإعلام في السلوك المدني والتفكير الحضاري لدى المواطن ...العبرة تكون بمدى نجاح الشبكة الإعلامية في تحصين القيم الراقية وأنماط التواصل الإنساني المبني على المحبة المتبادلة بين الجميع ..العبرة مرة أخرى تكون بتمنيع الهوية المغربية وصيانتها من الاستلاب والتشويه والتزييف والتبخيس ...نعم ،العبرة تكون بمقاومة الفكر الأحادي والخرافي والظلامي والشوفيني والعدمي والتهريجي الذي يقود إلى الإقصاء والعداء والانغلاق والحقد والتشنج والنمطية والجمود...نحن المغاربة محظوظون بما منحنا التاريخ والحضارة من تنوع في المكونات (عربية ،أمازيغية ،يهودية ،أندلسية متوسطية ،إفريقية ...)، وخصوبة في إنجاب الطاقات ،وقابلية فريدة في نسج العلاقات مع الآخر ومع الذات و،ورحابة في احتضان الإضافات والمستجدات ...نحن شعب عريق بتراثه اللامادي ، غني برأسماله الثقافي ورصيده البشري ،طموح بإرادة نسائه ورجاله ،صغاره وكباره في رسم مستقبل زاهر وآمن لوطن ديمقراطي متماسك...فهل يعكس مشهدنا الإعلامي هذه الدينامية التي تغيبها الجهات الرسمية أو تقزمها في أحسن الأحوال ..؟؟ أليس إعلامنا الراهن وجها آخر لسياسة رهيبة تسعى إلى تشكيك المواطن في انتمائه ،وإفقاده القدرة على ممارسة حريته في امتلاك وبناء فكر نقدي يسعفه في التمييز بين ماله وماعليه ؟؟؟فكر مدني واستراتيجي مستقل يدرك الحدود بين الممكن والمستبعد والمستحيل في تدبير شؤونه الخاصة والعامة ؟؟؟مع الأسف ،فإن الإعلام المحتل لمساحات شاسعة من فضائنا التواصلي ،رغم ثرثرته اللافتة والمذهلة ،لا يساهم بتاتا في كسب هذا الرهان الذي بات في زمن العولمة المشحون بالتوترات والنزاعات والتطاحنات مطلبا حيويا وحاسما ...