أول ما ينتابك وأنت على أريكتك.. وبيدك جهاز التحكم عن بعد، تقلّب ناظريك بين ما يسمّى "بالقنوات المغربية"هي مسحة البلاهة التي تستولي عليك فجأة دون مقدّمات.. فبين نشرة إخبارية عقيمة، تقدّم بأسلوب عفا عليه الزّمن.. بمذيعين يُخيّل إليك أنّهم خرجوا للتّو من عصر تلفزة الأبيض والأسود ..وبين برنامج عن الطّبخ، الذي أصبح من ركائز المشهد الإعلامي المغربي "المعاصر"، وبين خيط "أبيض" ممعن في استغلال مشاكل الشّرائح الأكثر فقرا، وبين سيتكومات ومسلسلات تتفوق في استغباء المشاهد، والضّحك عليه لا إضحاكه! وبعد أن تزول عنك عوارض البلاهة والبلادة الطارئة، التي انتقلت إليك .. و تستعيد قواك العقلية أو "بعضها على الأقل" ! تغمرك الحسرة على المشهد الإعلامي الوطني وتتساءل باستنكار : أهذا هو إعلامنا المغوار، المعوَّل عليه في عصر التّقنيات الحديثة في الاتّصال والتّواصل؟ في عصر الفايس والتويتر ! في الوقت الذي أصبح فيه العالم قرية صغيرة، تتناسل فيها القنوات الفضائية من كل جنس ولغة، تعرض كلّ ما تشتهيه النّفس، غثّا كان أم سمينا . لا عجب إذن في هجرة المشاهد المغربي إلى القنوات الأجنبية، العربية منها والغربية.. هربا من قنوات تكرّس التّخلف الفكري والاجتماعي، بلغة إعلامية موغلة في القدم، ينفر منها المشاهد الأمّي فما بالك بالمثقّف؟ آخر الإحصائيات قدّرت نسبة المشاهدين المغاربة للقنوات الأجنبية بحوالي 60% وهذه النسبة مرشحة للارتفاع، إذا استمر الحال على ما هو عليه، وتجاهلت القنوات الوطنية الوضع ودسّت رأسها في الرمال..على دأب الأخت النّعامة ورغم استهانة البعض بهذه "الهجرة"التي تروم الفرجة والتّرفيه، خارج شاشات الوطن.. باعتبارها إحدى مظاهر الانفتاح على العالم الخارجي ! مع العلم أن هذه الهجرة قد تؤدّي إلى استلاب الهوّية الوطنية. حيث يصبح المتلقّي ويُمسي، على ثقافة غريبة عن ثقافته الأصلية، فتتضاءل لديه مشاعر الانتماء إلى بيئته الأصلية.. ولن نذهب بعيدا.. فمن آثار هذه الهجرة المباشرة، أنّ كلّ شبابنا وبناتها ما شاء الله، يرطنون باللّهجة المصريّة والسّورية، بحيث لا تكاد تميّزهم عن غيرهم حين تراهم في القنوات المشرقيّة، حتى يجهروا بأنهم من "المغرب" .علما أنّ ما تقدّمه تلك القنوات لا يعتبر أحسن حالا، بالرغم من الفارق التكنولوجي والتقني،بينها وبيننا. فهذه القنوات باعتبارها قنوات تجارية بالأساس، تميل إلى الجانب الترفيهي في هيكلة البرامج المقترحة على المتلقّي، فتضخّم الوجبة الترفيهية المقدمة ،على حساب باقي البرامج. ويزيد انتشار القنوات المتخصصة الطين بلّة، فمعظمها متخصّص في الأغاني أو الأفلام، وفي هذه الأخيرة معظم الإنتاجات المعروضة تجارية تتأرجح بين الكوميديا والأكشن، فيترنّح المشاهد من الجرعات المكثّفة من هذه النّوعية من البرامج ،بين هيفاء وهبي وشاكيرا ،بين محمد هينيدي وجيمس بوند .. ! هذا عدا الموضة المكسّرة لكل الأرقام القياسية "الدراما التركية" التي أصبحت تشكّل ظاهرة اكتسحت التليفزيونات العربية، التي تنافست في تقديمها فحاصرت المشاهد العربي من كل النّواحي ،فيضطر المسكين إلى الاستسلام ومشاهدتها ..حتّى وإن لم يرغب في ذلك، بما أنّها الطّبق الرّئيسي في جلّ القنوات ! قد يقول قائل لكن أليس هذا ما يبحث عنه المشاهد نفسه؟ لماذا تعفيه من المسؤولية وتلقيها بالكامل على هذه القنوات؟ ! فإلى جانب هذه النّوعية من القنوات، تتواجد نوعية أخرى سواء أكانت إخبارية، أو دينية ..وبالتّالي فمسؤوليّة الاختيار تقع على المتلقّي الذي يختار ما يودّ مشاهدته، بمحض إرادته. وهو الذي يشجّع انتشار هذا النّوع من البرامج أو ذاك، بناء على نِسب المشَاهدة التي تحقّقها البرامج المقترحَة؟! هذا صحيح نظريا، لكنه ينفي الدّور الكبير للإيحاء الذي تقوم به الإعلانات.. والحلّة البرّاقة التي يقدم بها هذا النوع من البرامج، والحملات الدعائية المكثّفة التي تخصص لها.. إضافة إلى أن معظم الأشخاص، يميل إلى مشاهدة ما يشاهده صديقه وجاره وابن عمه... ! فكم من شخص تابع المسلسل الفلاني أو الفيلم العلاّني بناء على "توصية" معارفه أو أقاربه. مما يسلب المشاهد حرّية الاختيار فيجد نفسه يشاهد دائما نفس النّوعية من البرامج السخيفة التي تسطّح وعيه وتخدّر دماغه، فيدمن الجلوس أمام شاشة التلفزيون، ومتابعة هذه القنوات. وهو يعتقد انه يفعل ذلك باختياره، بينما هو في الحقيقة مسيّرا من ماكينتها الدعائية الرّهيبة. كما قال ستيف جوبز "إن الإنسان الذي يجلس أمام التلفزيون يطفئ دماغه" هذا التّسخيف لا يتوقف على القنوات التلفزيونية فحسب، بل يمتد إلى الإعلام المسموع. فالإذاعات بدورها، وصلت إلى مستوى غير مسبوق من الانحطاط والتفاهة، في معظم البرامج التي تبث عبر الأثير. خصوصا مع تحرير الإعلام وانتشار عدد كبير من الإذاعات الخاصة عبر التّراب الوطني ،التي تسابقت في تسوِّيق التّفاهة والسّخافة في برامج يُطلق عليها "برامج المنوّعات" حيت تُستهلك ساعات من البث، بالدّردشة المتواصلة في مواضيع تافهة.. وعديمة النفع .ويقع المستمع ضحيّة سهلة لهذه البرامج، خصوصا الشّريحة المجتمعية التي تلجا إلى الرّاديو كوسيلة وحيدة للتّرفيه، مثل سوّاق الطاكسي والصّناع التقليديين ... وبدل من النّهوض بهذه الشّريحة المجتمعية التي تعاني التّهميش، تبث هذه الإذاعات برامجها، بالارتكاز على مواد من قبيل النّكت والطّرائف والدّردشة الفارغة والأغاني الشعبيّة، فينهار المستوى الثّقافي لهؤلاء ويتردّى ذوقهم بفضل هذه الإذاعات .. بعد أن كان الكثير منهم يستقي ثقافته ويستمد وعيه بالاستماع إلى الراديو. الذي كان في يوم من الأيام، مدرسة يتلقىّ فيها المستمع دروسا قيمة في مختلف المجالات، مثل ما كان يحصل مع إذاعة طنجة في أيامها الذهبية. ويبقى الإعلام قطب الرّحى في الحياة المعاصرة، والفاعل الأساسي في زيادة أو تحجيم وعي الشّعوب، بما يقدمه للمتلقيّ من أطباق فائقة الدّسم ،سواء من الثقافة أو السّخافة.ويبقى إعلامنا متأخرا بعقود من الزمن ،عن ركب الإعلام العالمي ما لم يتدارك الوضع.. هذا البريد محمى من المتطفلين. تحتاج إلى تشغيل الجافا سكريبت لمشاهدته.