تتعدد الأسئلة التي تحيل على العلاقة الغامضة بين عداء النخبة الفكرية والثقافية المغربية للأمازيغية وبين فشل المشاريع الإصلاحية التي حاولت هذه النخبة تسويقها وتصريفها على شكل برامج سياسية أو عبر قنوات التثقيف المعروفة كالتأليف والكتابة واللقاءات، أو عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية الرسمية(الإعلام، المدرسة)، وظل البحث عن أجوبتها الحقيقية يتأرجح بين أقلية تعيش على الهامش بفعل التعتيم والإقصاء الممارس على الأمازيغية من جهة، وعلى كل الأصوات التي توصف بالخارجة عن الثوابت والإجماع التي تواطأ على ترسيخها كل من المخزن والنخبة العروبية من جهة أخرى. وإذا كان الحديث عن أدوار النخبة الفكرية والثقافية في التأثير على فلسفة المجتمع المغربي وفي تحديد أولوياته وغاياته الكبرى قد يكتنفه التشكيك والتنقيص من لدن بعض المفكرين، باعتبار أن هذه الفئة لم تقدم الشيء الكثير ولم تكن وراء مشاريع التغيير، فإن هناك من رأى أن استحضار الدلالات والشروط المتداولة في الدول المتقدمة يجعلنا نتساءل عن مدى أمكانية الحسم في وجود النخبة ككيان قائم بذاته له وظائف محددة في المجتمع، ولو ربطنا إسهاماتها وتنظيراتها ومنطلقاتها الفكرية والاديولوجية ومواقفها بالإمازيغية فسنقف، على الأقل، على صورة واضحة عما ظل على الدوام محل إجماع واتفاق بين المفكرين المغاربة رغم تباينهم في المشارب والخلفيات والمرامي، هذا الإجماع يتمثل في العداء للأمازيغية كسمة مشتركة لأغلب الأعمال والمشاريع الفكرية. يتمظهر إجماع النخبة على إقصاء الأمازيغية من خلال سبر ومقارنة موضوعية للأعمال التي كتبت في الماضي أو تلك التي لازالت تكتب، أو من خلال قراءة للأرضية التي جعلها المفكرون منطلقا لمشاريعهم الفكرية والسياسية الموجهة للتغيير، أو حتى من خلال أحداث مناسباتية، كما حدث مثلا في التسعينات الماضية، عندما رفض اتحاد كتاب المغرب بالإجماع القرار الذي تقدم به الكاتب أحمد عصيد والقاضي بإدراج الأمازيغية ضمن اللغات التي تتم الكتابة والتأليف بها في الإتحاد، ولعل التمعن في الحادثة يولد عدة تساؤلات عن مدى استقلالية الكتاب المغاربة عن رهانات وخلفيات اديولوجية، وعن مدى قدرتهم عن صنع التغيير وتسجيل السبق إليه قبل الفاعل السياسي الذي كان دوما المبادر والموجه خاصة في التعامل مع الأمازيغية، وعما يؤطر انشغالاتهم هواجسهم وأهدافهم. ولفهم هذه الوضعية لابد من استحضار عدة معطيات. 1_ تصعب مناقشة تأثير إسهامات النخبة في النسق الثقافي والسياسي والاجتماعي المغربي كما يصعب الحديث عن التغيير والممكن دون ربط ذلك كله بسياق نشوء النخب نفسها. فالمعلوم أن المخزن عبارة عن أدرع لها وظائف محددة، تعمل على ضمان استمراره وتجدره في وعي واللاوعي الجمعي للمجتمع من خلال البحث عن سبل إما لتثبيت الشرعية أو لتجديدها تبعا للمتغيرات المحيطة، أو حتى لسحب الشرعية عن أطراف معينة في أفق احتكارها، ولتحقيق ذلك يلجأ المخزن إلى صناعة النخبة، على مقاس اديولوجيته وإفراغها من شحنات النقد و النضال، كما ذهب إلى ذلك مجموعة من المفكرين وكما نجد مثلا في كتاب ''صناعة النخبة في المغرب'' للسوسيولوجي محمد العطري. 2_ارتباط عضوي بين المشاريع الفكرية لمعظم النخب وبين رهانات سياسية وإيديولوجية من جهة وبين عداء هذه النخب للأمازيغية وهويتها من جهة أخرى، وتتضح هذه العلاقة على الخصوص في كون المفكرين الذين كانوا ينشدون التغيير والإصلاح، على سجيتهم طبعا، هم في نفس الوقت حاملين وملتزمين بالعمل السياسي داخل أحزاب ذات التوجه العروبي، حيث قاموا بتصريف أفكارهم وانتاجاتهم وتصوراتهم حول قضايا ثقافية ولغوية وهوياتية وتاريخية داخل إطارات سياسية وتم تسويقها على أساس مواقف رسمية، مما أكسبها الاستمرار والحياة بغض النظر عن نجاعتها من عدمها. ولا يمكن في أي حال من الأحوال، الحديث عن تلك العلاقة دون ذكر أمثلة بارزة تجسدها، كعلال الفاسي المؤسس الروحي لحزب الاستقلال والحامل للمشروع العروبي الإقصائي للكيان الأمازيغي، ومحمد عابد الجابري الداعي إلى إبادة اللهجات الأمازيغية خدمة للقومية العربية والذي يعتبر من رموز اليسار حيث نشط في كل من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ثم الاتحاد الاشتراكي لاحقا، ودون أن نغفل الحركة الوطنية وبعض روادها من قراء اللطيف ومبتدعي أكذوبة الظهير البربري، ثم ما يسمى النخب المدينية التي سمح لها من خلال استغلال فاحش صدور قانون استعماري سنة 1930، بتأسيس "كتلة العمل الوطني" سنة 1934، بمباركة وتزكية من طرف شخصيات سياسية فرنسية، ثم ترسيمها ممثلة للمغاربة بجانب سلطات الحماية. وبهذه الصفة، طالبت " بتعميم تدريس اللغة العربية على كل المغاربة إلى جانب اللغة الفرنسية، مع التخلي عن تدريس الأمازيغية، حفاظا على وحدة المغاربة التي لا تقوم إلا على العروبة والإسلام وفق تصورهم. 3 _ تتميز المشاريع الفكرية التي تمت تقديمها كبديل للواقع المعاش بكونها تنتظم في قوالب جاهزة تم استيرادها دون إخضاعها للتغيير ودون تكييفه مع البيئة المغربية ومقوماتها الهوياتية والحضارية. وتتجسد هذه القوالب الجاهزة مثلا في منظومة الفكر اليساري المغربي، فرغم أن ليس هناك أي تعارض بين الأمازيغية كهوية أو لغة أو ثقافة أو تاريخ إلا أن نشوء و ترعرع اليسار العروبي في الشرق ثم امتداده إلى المغرب جعل من اليسار المغربي يتبنى العروبة كركيزة وكأساس في تصريف باقي الأفكار الاشتراكية، نفس الطرح ينطبق على الحركات الإسلامية التي استوردت الأفكار في قوالب دون أن تخضعها للمراجعة في إطار الخصوصيات المحلية للمغرب وفي إطار مبادئ الدين الإسلامي الذي يعد دين للعالمين وليس لقومية بعينها. تتجلى خطورة النخبة المغربية المعادية للأمازيغية في ارتباط نشوئها وترعرعها بسياق سياسي انتهازي أكسبها دعما رسميا ساعدها على بلورة تصوراتها الضيقة حول هوية المغرب وتاريخه وثقافة الأغلبية وفرضها قسرا في وجود ظروف خصبة كالأمية وغياب الحرية والتعتيم وممارسة التضليل والترويج للمغالطات واستغلال المشاعر الدينية للمجتمع وغرس وترويج أفكار عبر قنوات رسمية. وجه أخر من تلك الخطورة يتمثل في تفريخ أشباه مفكرين لازال يحرصون على توريث ألي لثقافة إقصاء الأمازيغية من جيل إلى جيل، وفي استمرار الكتاب في تجاهل الأمازيغية وصعود سياسيين، كانوا بالأمس محسوبين على المثقفين، إلى قمة الحكم وترديدهم لما قيل منذ عقود حول الأمازيغية دون أن يجددوا قناعتهم المهترئة ودون أن يراجعوا أفكارهم الصنمية المتجاوزة.