إن ذاكرة الشعب الذي لا يتولى كتابة تاريخه بنفسه تصبح ،بعد ردحا من الزمن ،مستباحة تغري دوما الآخر الذي تدفعه المصلحة و الرغبة في استغلال هذا الفراغ في تدوين الأحداث بما يخدم أهدافه السياسية و الاديولوجية. فالأطماع الأجنبية تتخذ من التأريخ وسيلة لشرعنة التدخل و الاستعمار ،الأمر الذي ينطبق كذلك على الأنظمة الحاكمة التي تسافر عبر الزمان لاستدرار شرعية تاريخية تبرر بها أحقيتها في تولي و استمرارها في الحكم ،كحال الملكيات في العالم ،وينطبق ذلك أيضا على تلك التيارات أو الطبقات الاجتماعية أو القوميات التي لا تجد حرجا في اصطفاء الروايات ،وتقزيم أو تضخيم أو تزوير الأحداث تماشيا و ما يخدم أجندتها الاديولوجية أو لممارسة الابتزاز السياسي باستغلالها بعض الأحداث التاريخية(كما تفعل بعض الأحزاب المغربية باعتبار مؤسسيها هم الموقعون على وثيقة المطالبة بالاستقلال). ويتقاطع التاريخ الذي يقدمه المستعمر و التاريخ الرسمي للأنظمة و حتى تاريخ القوميات و الطبقات الاجتماعية في كونه يميل نحو تقمص الوظيفة السياسية و الإديولوجية عوض التركيز على الوظيفة المعرفية و الإخبارية الموضوعية ،وبذلك تضيع الحقائق التاريخية وسط زخم التوظيفات السياسيوية الفئوية. فتاريخ شمال إفريقيا مثلا ،أضحى على الدوام مُغيِبا لوجهة نظر الأمازيغ في الكتابات و المنعرجات التاريخية الحاسمة و في الروايات و الأحداث التي تهمهم منذ العصر القديم إلى العصر الحديث ،وظل الآخر الأجنبي أو الوافد هو الذي يكتب و يدون و ينتقي ما يجب و ما لا يجب أن يكون و كيف يجب أن يكون ،و من ثم صار الوعي بالذات الأمازيغية محاصرا تنتزعه الإصطفافات و الميولات و أهواء المؤرخين ذوي التوجه الشرقي أو الغربي. و الدليل على ذلك أن الأسئلة القلقة و الحرجة في التاريخ المغربي ،ذات علاقة مباشرة أو غير مباشرة بتاريخ الإنسان الذي سكن الأرض و وجوده الاجتماعي و السياسي و تنظيماته و سجل انتصاراته و مقاومته ...،لازالت مستعصية عن التنقيب الموضوعي الشغوف بالحقيقة التاريخية و لم تلج بعد مقام الرواية التاريخية الوطنية و بالتالي تعتمد كمادة دراسية في الفصول المدرسية ،فقد تم احتواء هذه الأسئلة و توجيه امتداداتها في الحاضر في إطار التاريخ الرسمي الذي وصفه علي صدقي أزيكو بكونه ينحصر في الأنشطة الرسمية التي ليست في حقيقة الأمر إلا انعكاسا باهتا لتاريخ تجري أحداثه خارج الميادين المفضلة لدى الإخباريين ،حيث تُنتَقى أحداث بعينها و يتم تضخيمها و في المقابل يتم تحريف مجريات بعض الأحداث الأخرى و أحيانا كثيرة يتم تجاهل محطات مشرقة من التاريخ المغربي كما حدث مع تاريخ الدولة البرغواطية الأمازيغية ،و قبلها التاريخ المغربي القديم. وباستثناء إشارات محتشمة وردت في درس لمادة التاريخ حول أن الأمازيغ هم سكان المغرب الأولون أتوا من الجزيرة العربية ،رَهَن المؤرخ الرسمي مجريات التاريخ المغربي القديم بالوافد و بالمؤثرات الخارجية للشعوب المستعمرة ،حيث أَعلي من شأن الوافد المنقذ مقابل الساكن الأصلي الذي ظل ،حسب ما يُفهم من الرواية الرسمية ،غير فاعل و غير مشارك في صناعة تاريخه ،بل إن البداية الفعلية للتاريخ المغربي ،كما تسوقه نفس الرواية ،قد بدأ مع وصول ادريس الأول إلى المغرب و تأسيس دولة أوربة المسماة الأدارسة في الرواية الرسمية ،و بذلك تم تهميش التاريخ المغربي القديم الذي يشكل 90 في المئة من تاريخ الأمم التي تحترم ذاتها و الأنا الحضارية الغابرة في أعماق التاريخ. فبدءا بأصل السكان الأولين للمغرب ،مرورا بدخول العرب ،ثم مكانة الدول الأمازيغية (البرغواطية مثلا)في الرواية الرسمية ،وصولا إلى مرحلة الحماية و تجاهل المقاومة في القرى و ابتداع أكذوبة الظهير البربري و بناء الدولة المغربية العصرية على النمط اليعقوبي بهوية و بانتماء مصطنع...،كلها منعرجات مهمة و حاسمة في تدبير الوضعية السياسية الراهنة ،و لذلك فالتاريخ الرسمي لم يكن ليعتمد إلا على المصادر التي تغذي أطروحته و تضفي المصداقية على تصوره لحركية الأحداث التاريخية بالمغرب ،و استمر العمل بنفس المنهجية الانتقائية إلى حدود اليوم رغم انتفاء عنها مقومات الموضوعية و التجرد و رغم تطور البحث التاريخي المدعوم بأركيولوجيا و أبحاث الجينات التي يمكن اعتمادها لدحض أو تأكيد بعض النظريات أو الروايات التاريخية التي لازالت تصنف في خانة المسلمات ،و لهذا فالمؤرخ الرسمي المغربي لازال وفيا لنفس المصادر المبنية على الحسابات السياسية دون أن يخضعها للنقد الإبستمولوجي أو يقاربها بناء على النتائج التي حصلتها بعض العلوم الحقة. لقد بات أكيدا أن مباشرة الإصلاح الجذري في الأوراش المرتبطة بالذات الهوياتية و الحضارية و الثقافية و اللغوية الأمازيغية المغربية و إعادة الاعتبار لها ،لن يتأتى دون تحقيق المصالحة مع الماضي عبر بوابة تصفية الروايات التاريخية من الشوائب و إعادة الاعتبار للتاريخ المغربي القديم و الاعتزاز به ،والانفتاح على الأبحاث العلمية الجينية التي أصبحت تحسم في قضايا كانت إلى عهد قريب من المستبعدات التاريخية ،كالتوصل مثلا في آخر دراسة علمية إلى كون أصل البشرية يكمن في إفريقيا و بالضبط في كينيا و المغرب ،وأننا كمغاربة نتطابق جينيا مع الأوربيون و سكان الحوض الأبيض المتوسط ،عكس ما دأبت الكتابات التاريخية ذات التوجه الشرقي على تسويقه ،فهل سيملك المؤرخ الرسمي المغربي الجرأة على التراجع عما كان يكتبه و يقدمه على أنه حقائق تاريخية؟ ادريس رابح